كثير ذلك الذي يمكن أن نكتبه ونتناوله في ذكرى انتفاضة الأقصى؛ دلالاتها وتطوراتها ومفاجآتها، والنتائج التي أفضت إليها ( أهمها تحرير غزة)، ثم المخططات التي وضعت ورُتبت لإجهاض روحها ومنع تجددها، ولحمل الوعي الجمعي على الزهد بجدوى الانتفاضات الجماعية التي يمكن أن تبذل فيها الدماء رخيصة، ثم لا تلبث أن تتحول وقوداً للعمل المسلّح المجرد من حسابات الخسارة، والمتسارع في مدّه بقدر ما يُتاح له من حرية للإبداع والعطاء.
ولعل تزامن الذكرى هذا العام مع حادثة اغتيال البطلين القساميين عامر أبو عيشة ومروان القواسمي في الخليل ألزمني بالتركيز قليلاً على قضية واحدة في ظلال الحدثين، وهي الأثر، الأثر الذي قد يصنعه فعل نوعي واحد، بكل ظروفه وإفرازاته ونتائجه، وكيف يتفوّق هذا الأثر على أفعال كثيرة متناثرة سرعان ما تنسى.
والحال أنني أتحدث هنا عن ساحة الضفة حصرا، لأن الأثر المتحصل من فعل المقاومة في غزة ونوعيته وتركيزه خلال معركة (العصف المأكول) مفهوم وملاحظ، وهو أساس التحوّل الحالي في المزاج الفلسطيني العام، وانزياحه باتجاه القناعات التي يتضمّنها نهج المقاومة، وما يترتب عليه من تضحيات جمّة.
لكن الضفة هنا، حتى وهي مهيضة الجناح، برز فيها مثال لحدث بالغ التأثير (عملية الخليل)، بسبب استثنائيته وإنجازه في توقيت معقّد وظروف شائكة، وعلى مشارف حالة مأزومة على عدة صعد، سياسياً وعسكرياً وميدانيا، ومن هنا ظلّ مكتسباً زخمه الكبير الذي تغلغل في النفوس وفتح نوافذها على حقائق كانت مغيبة أو منسية، سواء على صعيد تحرر الإرادة من عجز الواقع، أو ما يخصّ طبيعة النماذج المنتجبة للفعل المقاوم، وملامح سيرتها ومناقبها، وكيف اختلفت عن غيرها حين لم تدر ظهرها لنداء الواجب، وما الذي أهّلها لتسلك الدرب الأصعب وهي مبصرة مآلاته، وراضية بمصيرها المتوقع.
أغلق المحتل فاتورة حسابه بالإعلان عن اغتيال الشهيدين، لكن الأمر لم ينتهِ هنا، فأثر الدماء المبذولة في إطار الصورة الكلية للحدث ونتائجه (وليس نهاياته) ما زال متفاعلا، غير أن رصد هذه التفاعلات والمدى الذي بلغته لا يُتاح لمن يستعير النظريات المجردة في تقييم الفعل والتعاطي مع حدث الشهادة، ولا لمن يرى أن خسارة الشهيدين أثقل من تلك الانتفاضة النفسية التي صنعاها، وخلخلة بنيان الجمود الذي كاد أن يصبح قدراً لا فكاك منه في عرف كثير من مستثقلي ضريبة التغيير.
جمر تحت الرماد، ونار تضطرم في النفوس، تلك هي محددات الخطوة القادمة المطلوبة والمنتظرة، فالأحداث الفاصلة لا تصنعها نفوس تقليدية وادعة، تألف التعايش مع كل حالة ذلّ مفروضة عليها، وتنشغل في حشد مسوّغات الانكفاء أو توصيفها، وانتفاضة النفوس هي حجر الزاوية في مشهد التغيير، وبدونها يكون الحلم بالانتقال إلى عهد مختلف (كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاح).. لكن حدوث الانقلاب النفسي الكامل لجيل بعينه تَلزمه نماذج من واقعه القريب، وهي المنائر التي تنتصب شاخصة على طول الطريق، فلا تنطفئ، ولا تبلى، لأنها امتلكت المفاتيح الأولى وواجهت العواصف وحيدةً ابتداءً فحقّ لها أن تصنع طوفاناً تأثيرياً لا يغادر نفوس وعقول سالكي نهجها.