لو استطلع أحد الشارع الفلسطيني حول تكرار كلمة راتب وكلمة فلسطين، فماذا سيجد؟ الجواب لدى الناس جميعا. ربما تزحف قضية وطنية مثل قضية الأسرى مؤقتا على اهتمام الناس، لكن تبقى المسائل الوطنية هامشية أمام المسائل المعيشية والاستهلاكية، إلا لدى قلة يصعب أن تجد لها مكانا في اتخاذ القرار. تطغى الثقافة الاستهلاكية على الثقافة الوطنية، وتراجعت قضية فلسطين بصورة كبيرة جدا أمام الزحف الصهيوني والبناء الاستيطاني.
بداية، أذكّر بما كتبته وحاضرت فيه مرارا وتكرارا للناس منذ الأيام الأولى لتوقيع اتفاق أوسلو. قلت للجميع إن إسرائيل لن تكون بحاجة لتوظيف جيشها لإغلاق المدن والقرى في الأرض المحتلة/67، وستكتفي بكومة من التراب لاحتجاز الناس داخل تجمعاتهم السكانية، وإن الفلسطينيين سيمارسون الاحتلال بالوكالة، وسترتاح إسرائيل من ملاحقة الأطفال في أزقة نابلس والخليل، ومن هموم إدارة شؤون السكان اليومية. وقلت إن إسرائيل والغرب سيشترون الإرادة الفلسطينية بالمال، وسيتحول الناس عن اهتماماتهم الوطنية لصالح اهتمامات ثانوية، وستتدفق أموال لتكون ثمنا لفلسطين، وإن المناضل الذي قضى سنوات في معتقلات بني صهيون سيصبح متعاونا أمنيا مع أجهزة أمن إسرائيل، وسيعتقل المناضلين الفلسطينيين.
الاستنتاج كان سهلا ولا يحتاج لعبقرية أو ذكاء، وإنما كان يتطلب التفكر قليلا ببنود اتفاق أوسلو ليرى فيها سواد الأيام الفلسطينية القادمة.
ومنذ الأيام الأولى لإقامة السلطة الفلسطينية حذرت من اعتماد الفلسطينيين على أموال الأعداء سواء كانوا من العرب أو الفرنجة، ومن وضع أموالهم بأيدي أعدائهم. وقلت إنه يجب تحرير لقمة الخبز من الأعداء. وكأنني كنت أقول عكس هذا. لقد تهافت الناس على طلب الوظائف العامة وكأن الأعداء سيستمرون بتمويل السلطة، أو كأنهم يقدمون صدقات مستدامة عن نفوس أمواتهم. لقد صرخنا كثيرا ضد الترتيبات الاقتصادية والمالية، وكنا دائما نسمع أن هؤلاء الذين يصرخون هم جماعة إيران وسوريا. والآن اتضح صدق حديثنا، وأثبت مجريات الأيام أن من يأتمن العدو غير مؤتمن وهو بالتأكيد خائن. وقد اعتدنا على علوّ صوت السقوط على صوت العقل. من المؤسف أن يصل الشعب الفلسطيني إلى هذا الدرك القاتل. ودائما صوت السقوط يتجرأ ليوزع شهادات بالوطنية والخيانة على الناس.
كان المفروض أن نعرف قدراتنا الاقتصادية الذاتية، وأن نقيم إدارة متناسبة مع طاقاتنا فقط، وأن نعمل بجد واجتهاد على رفع مستوى هذه الطاقات، ومع ارتفاعها يرتفع مستوى التوظيف الرسمي للناس. لقد وظفنا أعدادا هائلة من الناس في الأجهزة الأمنية والمدنية دون أن نحسب لسواد الأيام القادمة وذلك لشراء الذمم والحصول على التأييد السياسي. ولهذا مطلوب منا أن نراجع كل خطواتنا منذ أن بدأنا علاقاتنا مع نظام كامب ديفيد، أي منذ عام 1983، وأن نفكر مليا بما يجب علينا أن نفعل.
الإضرابات والسلام الاقتصادي
الاستيطان الصهيوني مستمر، وكذلك الاعتقالات ومختلف السياسات الصهيونية التقليدية، ونحن نسير من إضراب إلى إضراب مطالبين بالمزيد من المال، والانتظام بدفع الرواتب. اليوم المدرسون، وغدا الممرضون، وبعد غد السواقون، وأساتذة الجامعات في اليوم الذي يلي، واليوم كل الناس: بعضهم من أجل الراتب، والآخرون ضد الضرائب والأتاوات التي تفرض على الناس من أجل تغطية الرواتب ومهام الفساد الخ وهكذا تبقى إسرائيل مسترخية تماما وهي تسمعنا نتحدث في مجالسنا العامة والخاصة حول الرواتب وأموال الضرائب والمساعدات الأمريكية والعربية.
هذا هو السلام الاقتصادي الذي تحدث عنه شياطين الغرب بالأخص في الولايات المتحدة. رأى أهل الغرب أن إسرائيل كانت غبية، ولم تستغل الثغرات النفسية والقبلية التي تعاني منها المجتمعات العربية، وكان عليها أن تلهي الناس بالمال ليتفكك الوطن. استعمل أهل الغرب عددا كبيرا من مثقفي فلسطين وأكاديمييها لتقديم دراسات متنوعة حول المجتمع الفلسطيني لكي يتمكنوا من النفاذ إليه، وليحولوا شعار الجوع ولا الركوع إلى عكسه، وشعار الموت ولا المذلة إلى المذلة ولا الموت. ونجحوا بصورة ممتازة في إقامة زعامات وقيادات فلسطينية جاهزة لدفع الثمن الوطني مقابل الامتيازات والنعم التي تحصل عليها.
ببساطة، عمل أهل الغرب من خلال القيادات الفلسطينية على ضرب المنتجين الفلسطينيين من مزارعين ونعالين ونساجين ونجارين وحدادين وخياطين، وعلى زيادة أعداد الموظفين الحكوميين. السبب هو تقليل أعداد الناس المعتمدين على أنفسهم ماديا، وزيادة أعداد الناس الذين يعتمدون على الغير في لقمة خبزهم. لقد عطلوا حوالي 250000 أ فلسطيني عن الأعمال المنتجة، ورفعوا أعداد الموظفين الحكوميين إلى حوالي 180000. هذا فضلا عن المتقاعدين والمتنطعين وغيرهم. وعندما يعتمد المرء على عدوه في تحصيل لقمة خبزه يتحقق السلام.
الدكتور سلام فياض والرواتب
العديد من البنادق موجهة الآن إلى الدكتور سلام فياض لتحميله كامل المسؤولية حول الأوضاع. هو يتحمل جزءا من المسؤولية، لكن الذي يتحمل المسؤولية الأكبر هو الذي وقع اتفاق أوسلو واتفاق باريس واتفاق طابا، ووقع الاتفاقيات وعمل على تطبيقها هو الذي يتحمل المسؤولية الأكبر، وهو الذي ورط الشعب الفلسطيني بداية، وليس من حق من اعترف بإسرائيل ونسق أمنيا معها وطبع العلاقات أن يخرج علينا الآن ليعطينا دروسا في الوطنية.
المسألة ليست متعلقة بمواقف وطنية وإنما متعلقة بالمال. أذكر تماما كيف كان هؤلاء الذين يرون في القضية الفلسطينية صراعا بينهم وبين الدكتور سلام يبجلونه ويشيدون بقدراته المهنية، وأرى كيف يتصرفون الآن. بالأمس، كان ما يكفي من المال للرش هنا وهناك، واليوم شحت الأموال. وفياض لا علاقة له بهذا الأمر لا بالأمس ولا اليوم لأن السلطة الفلسطينية لا تعدو في هذا الأمر كونها صرافا يستلم أموالا من الجهات المعادية لتوزيعها بالطريقة التي تناسبها. منها ما يذهب إلى الرواتب، ومنها إلى الخدمات، ومنها إلى الفساد.
بالنسبة لهؤلاء، فياض جيد إذا توفرت الأموال، وهو غير جيد إن لم تتوفر، والمطلوب منه أن يطور قدراته على التسول. وماذا فعلنا بعد أن غادر فياض؟ ارتفع منسوب الفساد، وكشر الصهاينة بالمزيد عن أنيابهم، ووجد الأمريكيون فرصتهم للانقضاض على الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج.
الحرامي والمتسول
تحويل الشعب الفلسطيني إلى شعب متسول جزء لا يتجزا من استراتيجية السلام الاقتصادي. والمتسول يختلف عن الحرامي لأن الحرامي يوظف طاقات كبيرة للسرقة والحرمنة، وهو يجازف أحيانا بسمعته وحياته. الحرامي حقير، لكنه قد يكون جريئا، وقد يحتفظ ببعض الشهامة في داخله، وغالبا يقف مدافعا عن أهل بيته. أما المتسول فنذل ودنيء، وعليه أن يفتح باب بيته أمام من يريدون انتهاك عرضه. المتسول خسيس ونفسيته مؤهلة دائما للتقريع والتحقير والإهانة.
أخطر ما في الاتفاقيات مع إسرائيل أنها تطلبت ترويض الشعب الفلسطيني على نفسية المتسول. والقيادات التي امتهنت شراء الذمم، يهون عليها تعريض الشعب الفلسطيني لسياسة التسول.
الرواتب لمن؟
يدفع الفلسطينيون ضرائب، ويتم التسول باسمهم، لكن لمن الأموال؟ المفروض أن الأموال تُنفق على دافعي الضرائب، لكن هذا لا يحصل تماما في الأرض المحتلة/67. حوالي 97% من أفراد الأجهزة الأمنية ينتمون لحركة فتح، وحوالي 64% من الجهاز المدني للحركة. الوظائف الحكومية في أغلبها للحزب الحاكم، ومن المفروض أن يتدبر الحزب الأموال باسمه وليس باسم الشعب؛ وصاحب الراتب يدفع الضرائب. هناك خدمات عامة تُقدم للشعب الفلسطيني، والمفروض أن تتناسب الضرائب مع ما يحصل عليه المواطن العادي من خدمات. لكن الملاحظ أيضا أن أصحاب الحزب الحاكم ومعارفه وأقاربه يحصلون على فوائد أكبر من الخدمات العامة لأن لديهم وساطات، وأما من لا وساطة لديه لا يستطيع تسيير أموره إلا بشق الأنفس.
الغالبية الساحقة من المتقاعدين من أبناء الحزب الحاكم، وكذلك الذين يحصلون على أموال بدون مسميات وظيفية أو بمسميات وهمية.
ما رأي الدكتور رئيس الوزراء في جعل الميزانية ميزانيتين: ميزانية للحزب الحاكم وتشمل أموال التسول، وأخرى لعامة الناس وتشمل الضرائب التي يدفعونها. قناعتي أن ما يدفعه عامة الناس من غير الحزب الحاكم من ضرائب تغطي النفقات المطلوبة لهذا الجزء من الناس. هؤلاء العامة ليسوا بحاجة ل 30 وزيرا، ولا لأجهزة أمنية عدا الشرطة، ولا لفصائل فلسطينية تتربع على الأموال دون تقديم خدمة وطنية.
هذه توصية لكل وزارة جديدة يتم تشكيلها. نحن عامة الناس لا نريد أي جزء من الأموال التي تأتي من الخارج. فقط نريد أن نرى مردودا للضرائب والرسوم الباهظة التي ندفعها للسلطة.
ناضلنا ولنا الحق
تتكرر على مسامعنا مقولة “ناضلنا ولنا الفضل في تحقيق الإنجازات”. أولا لا يوجد إنجازات، وما حصل هو تراجع الفلسطينيين لتلبية المطالب الإسرائيلية، وثانيا لا يطلب المناضل أجرا، وثالثا لا يوجد فلسطيني لم يناضل بشكل أو بآخر، ورابعا هناك فارق كبير بين من يعترف بالتحقيق فيُسجن ويخرج قائدا وبين من لا يعترف فلا يسجن ولا يصبح قائدا. الدول لا تعيد جنديها الأسير إلى صفوف جيوشها، وخامسا لا حق للمناضل أن يتنازل عما ناضل من أجله، وسادسا لا يتبقى نضال لمن حمل بندقية بتصريح من الاحتلال.
ويبدو من تكرار المقولة أن النضال كان من أجل الحصول على النعم الشخصية وليس من أجل فلسطين.
تريدون توفير أموال؟
من السهل جدا توفير أموال والتخلص تدريجيا من نير الأموال المعادية، وذلك بالخطوات التالية:
ـ أولا: وقف الأموال عن الفصائل الفلسطينية لأن مهمة هذه الفصائل تحرير فلسطين لا العيش على حساب الشعب الفلسطيني، ويجب مطالبتها بكل الأموال التي أخذتها منذ عام 1994. الشعب الفلسطيني ليس مسؤولا عن الإنفاق على مكاتب للفصائل ولا دفع مرتبات لقادتها ومرافقيهم، الخ.
ـ ثانيا: يتوقف دفع رواتب لأكثر من 400 وزير سابق أو من هو برتبة وزير.
ـ ثالثا: الرقابة المشددة على مصاريف الرئاسة الفلسطينية، وما نسمعه عن هذه المصاريف كثير.
ـ رابعا: مطالبة كل الذين أخذوا أموالا من السلطة بدون وظائف حقيقية بإعادة الأموال إلى الخزانة.
ـ خامسا: جمع كل السيارات العامة بما فيها سيارات الرئاسة ورئاسة الوزراء وبيعها بالمزاد العلني، دون المساس بسيارات التربية والتعليم والصحة والدفاع المدني والشرطة. على رئيس فلسطين وكل المسؤولين أن يستعملوا أقدامهم أو سياراتهم الخاصة إن أرادوا إقامة دولة فلسطينية.
ـ سادسا: مراجعة ملفات الضراب لأن هناك عدم دقة إدارية في ملفات كثيرة تعود بالأخص لأثرياء ومتنفذين.
ـ سابعا: إنهاء عمل كل موظف حصل على وظيفته بالفساد الإداري. وإنهاء عمل كل موظف شارك بالفساد بدون تعويضات أو تقاعد
ـ ثامنا: إلغاء تقاعد كل شخص حصل على تقاعده بالفساد الإداري.
ـ تاسعا: دفع رواتب موظفين دون الذهاب إلى مكان العمل لأن أغلب الموظفين لا يعملون، ووجودهم في أماكن العمل يكلف السلطة كهرباء وماء وهاتفا، وربما يكلف أمراضا اجتماعية بسبب الانشغال بالأشخاص دون العمل. ومن المحتمل أن يستغل الموظف غير العامل وقته للقيام بعمل منتج مثل حراثة الأرض وزراعة النبات وتربية الحيوان.
ـ عاشرا: تحويل موظفين إلى وظائف فاعلة مثل تحويل موظفين في الأجهزة الأمنية إلى التربية والتعليم للتخفيف عن طواقم المدرسين، أو إلى الشرطة التي نحن بحاجة لزيادة أعداد المنتسبين لها.
ـ أحد عشر: يجب إعادة ترتيب أوضاعنا المالية والاقتصادية بطريقة نعترف بها أننا تحت الاحتلال، ولسنا دولة مستقلة ذات سيادة وموارد هائلة. لقد ذهبنا بعيدا بقيمة الرواتب، وبالنثريات والسيارات الحكومية والتعويضات عن السفر والتمثيل. وعلينا تقليص السفارات في الخارج، وأن نفكر بطريقة غير طريقة التقاعد والضمان الاجتماعي. نحن تحت الاحتلال، ولسنا جالسين على مناجم ذهب وألماس.
الاقتصاد الوطني
إذا أردنا المحافظة على كرامتنا، والحرص على استعادة حقوقنا، لا بد من التحول إلى اقتصاد إنتاجي وتبني سياسة الاعتماد على الذات. يجب قلب كل هذا الوضع الاقتصادي الذي نحن فيه، وأن نعود إلى أولوياتنا والمتلخصة بوطننا واستعادة كامل الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني. ما نحن فيه الآن غي وضلال وإضعاف للذات وإراحة نفس لإسرائيل ومن والاها. نحون نخون وطننا الآن، ونخون دماء شهدائنا وآهات نسائنا ودموع أطفالنا. بئس نحن.