عند تلك الإشارة الضوئية في الجنوب الفلسطيني المحتل، ستضطر لاختيار سبيل واحدٍ فقط. للأمام، الشمال أو اليمين. ولكي تصل وجهتك، عليك تجاهل اللافتة المؤدية إلى مستوطنة “لاهف”، وتجاهل الشارع المستقيم، والإنعطاف يمينا، لتصل إلى رهط، التجمع السكاني الأكبر لبدو النقب، والبالغ تعداد سكانه أكثر من 70 ألف نسمة، وهو لم يتأسس إلا قبل نحو 40 عاما فقط.
وقبل أن نترك فقرة المقدمة من الحريّ بك أن تعلم أن هذا التجمع السّكاني لا يخدم حاجات بعض البدو، ولا يريحه، وقد هُجروا إليه من قبل سلطات الإحتلال الإسرائيلي مكرهين، مرغمين، في محاولة لجمع أهل النقب في منطقة محددة ومنع توزعهم على كل مساحة النقب. رهط تجمع سكاني مكتظ، مكوم فوق بعضه البعض، أنشأته "إسرائيل" كبديلٍ عن الخيمة الواسعة، التي ما إن تفتح بابها حتى تطل عليك الصحراء، الصحراء الكبيرة. وشتان بين الإثنتين.
باتجاه مستقيم تكمل مسيرتك، حتى ترى إلى يمينك لافتة كتب عليها “المكسيكاني / المقهى الأدبي- رهط”. هذا المقهى العربي الأدبي الفلسطيني بامتياز. الذي يستقبلك فيه مروان أبو فريح (27 عاماً)، شابٌ كبير الطموح، حاد الملامح. المولود لأبٍ فلسطيني بدويّ من رهط، وأمِ فلسطينية ترعرعت في مخيم الدهيشة قضاء بيت لحم.
حكاية المقهى الأدبي - رهط
وحكاية مروان مع الأدب والثقافة بدأت حينما كان في الصف السابع، لمّا قام بنثر الغبار عن كتابٍ قديم لابن زيدون يحكي قصته مع ولادة بنت المستكفي. هذا الكتاب الذي كتب في أول صفحة عليه :”سلامة محمد مبارك أبو فريح - العام 1967”. كان أول كتابٍ قرأه. كَبُر مروان، وصار لكل كتابٍ جديد يملكه ذكرى رحلة، إما إلى إحدى مكتبات القدس، أو رام الله، لغياب الكتب التي ينشد في النقب.
ورغم دراسته الثانوية في مدرسة يهودية، ثم دراسته لنيل لقب “شيف” في الجامعة الأمريكية في تل أبيب في العام 2005، ليصبح طباخا في شبكة مطاعم إيطالية في "إسرائيل" باسم “سباجيتي” ونجاحه فيه، ومن ثم دراسة إدارة الأعمال والبورصة، إلا أنه لم يغفل عن ضرورة إقامة مشروع شخصي يخدم أهل بلده رهط، ويحقق فيه بعضاً من أحلامه.
خطوة أخرى على الطريق، قام بافتتاح فرع جديد لشبكة مطاعم “مكسيكاني” في رهط عام 2010. وظل في باله هدفه الأول بتطوير الفكرة لتكون مطعماً وملتقى ثقافياً أدبياً، فحقق ذلك في حزيران 2011.
وحين أزهر أيّار 2012 قام بتطوير المقهى ليصبح المقهى الأدبي للقراءة حيث قام بشراء 600 كتاب بقيمة 12 ألف شيكل ضمت روايات وكتب دين وفلسفة وتاريخ وشعر. حتى ينتقي الزبون ما يشاء ويقرأ أثناء تواجده في المقهى، ولم يعرض الكتب حينها للبيع.
[caption id="attachment_9947" align="aligncenter" width="576"]
بالرغم من عدم التجاوب الكبير مع الفكرة، إلا أنها لاقت استحسانا من فئة المثقفين، على حدّ قوله. فاستمر مروان في تطوير فكرته ليدشن المكتبة الثقافية في المقهى في شباط 2013 ويفتح الباب لشراء الكتب فيها، وقام على إثرها بالتعاقد مع بعض دور النشر في العالم العربي كدار الجندي ودار راية ودار الشروق وغيرها.
يذكر مروان إنه من أوائل الموّزعين لأطلس فلسطين التاريخي الصادر عن مركز الدراسات الفلسطينية والدكتور سلمان أبو ستة في فلسطين الداخل. وتضم مكتبة المقهى اليوم اكثر من 3000 كتاب في رفوفها.
محاولة لتعزيز الكتاب العربي
تبرز أهمية هذا المقهى إذا ما عرفنا البيئة التي نشأ فيها. فأهل النقب يُحاربون يومياً في هويتهم وانتمائهم الثقافي والوطني. عزلوا منذ وقعوا تحت الاحتلال عام 1948 عن مناطق الجليل والضفة والقطاع، وكانت حرب الـ1967 بالنسبة لهم "فرجاً" ليلتقوا بإخوانهم الذين حرموا من لقائهم سنوات طويلة.
يذكر مروان أنه من الشائع جداً أن تقابل شباناً في النقب يقرأون الكتب باللغة العبرية، خاصة أنها لغة التعليم في الجامعات الإسرائيلية التي يلتحقون بها، وهو أمر لا بأس به بنظره، لكن لا بد أن ترافقه أو تغلبه مطالعة لكتب اللغة الأم، العربيّة. ويقول مروان إنه بدلاً من السفر لساعات طويلة إلى القدس أو رام الله للحصول على كتاب ما، يمكن لابن النقب اليوم أن يحصل عليه من مكتبة المقهى الأدبي.
سلسلة نشاطات ثقافية
وتحت ظل المكتبة الثقافية، تقام فعاليات، وحفلات توقيع كتب لكتاب فلسطينيين من الداخل المحتل، بحضور العشرات من أبناء وشبيبة النقب. لتكون أمسية ثقافية فريدة من نوعها في رهط كل بضعة أشهر.
في نهاية شباط 2013 كانت المبادرة الثقافية الأولى في المقهى بعنوان “مارّون على السياج” التي ضمت معرضا لصور السوق البدوي في بئر السبع قبل وقوعها تحت الاحتلال، ومعرضا للثوب الفلسطيني، وغيرها.
بالإضافة لمحاضرات توعوية ثقافية وسياسية، واختتمت بحفل توقيع لكتاب “أقوى من النسيان” للكاتب الراحل نمر مرقص، حيث وقعته ابنته الفنانة أمل مرقص، و"بعض روحي" لمروة السيوري و"أبيات نسيتها القصائد معي" لمروان مخّول.
ومن بعدها استمر مروان ومن يسانده من شباب النقب في الفعاليات لتقوم المبادرة الثقافية الثانية “مارّون على السياج 2” في منتصف آذار 2013 والتي استمرّت طيلة ثلاثة أيام، حيث لاقت تفاعلا مميزا من أهالي النقب عامة، ورهط خاصة. وقام فيها الناقد السينمائي عنان بتوقيع كتابه “الموجة الجديدة في السينما الفلسطينية”، إلى جانب حلقات نقاش عن السينما الفلسطينية والمرأة في السينما الفلسطينية.
[caption id="attachment_9954" align="aligncenter" width="540"]
بالإضافة إلى لقاء خاص مع الكاتب سمير الجندي، صاحب دار الجندي للنشر والتوزيع، ومناقشة مجموعته القصصية الأخيرة “الباب”.
وأما آخر المبادرات الثقافية فكانت في نيسان الجاري، وهي حفل توقيع كتاب “وادي ملح” للكاتبة أورنا عقاد. هذه الرواية التي تعتبر رؤية واقعية حيادية لكلا الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي لتبرز الهزيمة والضعف فيهما قبل الوجوه الأخرى التي يتولى العالم إظهارها دون علم أو دراية. بالإضافة إلى معرض صور “باقون” للمصور الفوتوغرافي أيوب أبو مديغم. ومعرض عراقيب الثاني للكتاب الفلسطيني الذي نظمه برعاية المقهى.
وعن طموحاته حدثنا المؤسس والمدير العام للمقهى الأدبي مروان أبو فريح أثناء تناوله لقهوة "بريستوت الإيطالية" فقال إن طموحه هو أن يصل ل15000 كتاب في مكتبته، بحيث يصبح الكتاب العربي ليس بديلا فحسب، وإنما أساساً في بناء شخصية الشاب العربي الفلسطيني في النقب. وأن تركيزه بالأساس على جيل الأطفال، ليكون تأسيسهم سليم يمكنهم من مواجهة التحديات المستقبلية لواقعهم. “وهذا النقب لا يلجه إلا أهله، والسلام".