شبكة قدس الإخبارية

ليث مناصرة: ألا يليق بي أن أكون شهيدا؟!

ديالا الريماوي

مخيم قلنديا- خاص قُدس الإخبارية: تجلس على "الكنبة" المقابلة لباب منزلها في مخيم قلنديا شمال القدس، تنتظر عودة نجلها الذي يرقد تحت التراب، فهي غير قادرة على استيعاب غيابه الأبدي. تخاطب نفسها قائلة: "لعله يعود في أي لحظة يفتح الباب وأراه أمامي، قد يرجع ليشرب فنجان قهوته التي أعدها قبل استشهاده بوقت قصير".

ليث مناصرة (23 عاما)، لطالما اعتقد بأن مخيم قلنديا مجرد محطة مؤقته سينطلق منها عائدا لقريته إشوع غرب مدينة القدس، ولطالما آمن بأن الحرية تتحقق بالمقاومة، ومنذ طفولته كان يختار المسدس لعبة له، كما يقول والده.

ويصف الأب ليثه بأنه ومنذ نعومة أظفاره اتسم بالقوة والشجاعة، وكان أيضا الابن والأخ الحنون، هادئا، محبوبا، جريئا، طيب القلب، اجتماعيا، صديقا لأمه وأبيه، يحب المغامرة وخوض التجارب، كما اشترك وتدرب في الكشافة.

وتسهب "أم ليث" أكثر في وصف ابنها قائلة: "كان حنونا، إذا أغضبني قليلا يمازحني ويطلب الرضا، يحب اللون الأسود والأحمر. يهتم كثيرا بمظهره، ولا يخرج قبل أن يستحم ويرتب شعره، ويختار الطبخة التي سأعدها للغداء، إذ كان يحب المقلوبة والكبسة، وهما الطبختان اللتان لم أستطع طهيهما منذ استشهاده".

13618132_10208819275255803_426310706_n

الثائر والعاشق

اعتاد ليث أن يمضي وقتا طويلا على جهاز الحاسوب، أحب سماع الأغاني الوطنية، وكان يتحدث كثيرا عن الشهادة أمام والديه، فيقول: "بتمنى استشهد يما، وإذا صار وتحققت أمنيتي بدي تبروزيلي (هاي الصورة)، وما تنسي تزغرديلي في الجنازة". أما والدته فكانت عندما تسمع تلك الكلمات ترجوه أن لا يكررها.

[caption id="attachment_96285" align="aligncenter" width="479"]الصورة التي أراد ليث بروزتها الصورة التي أراد ليث بروزتها[/caption]

وكلما سمع ليث أن جنود الاحتلال اقتحموا المخيم، أو أن مواجهات اندلعت عند حاجز قلنديا، خرج من منزله ملبيا النداء، رغم وفي كل مرة كان والده يبحث عنه في المواجهات ويعيده إلى منزله خوفا من أن يصيبه مكروه.

وإلى جانب شخصيته الثورية، لم يتردد ليث في الحديث إلى والديه عن الفتاة التي أحب، ورغبته بالزواج منها وتأسيس عائلة، وقد قرر أن يبدأ هذا العام ببناء منزل على أرض له في بلدة كفر عقب المجاورة للمخيم، على أن يتقدم لخطبة "حبيبته" بعد ذلك، ولأن ذلك القلب النابض بالحب قد توقف بات الزواج حلما لن يتحقق.

ويقول والد ليث، إنه أحس مع بداية تشرين الثاني/2015 بأن ليث تغيرت ملامح وجهه، وزاد شروده، لكن الابن أصر دائما على إنكار وجود أي مشكلة وحدث غير عادي في حياته. في تلك الفترة اقتحم جنود الاحتلال مخيم قلنديا مرتين من أجل هدم منزل الأسير محمد أبو شاهين منفذ عملية "دير بزيع" التي قتل فيها مستوطن وأصيب آخر، لكن حجم المقاومة التي قابلهم بها أبناء المخيم أجبرتهم على التراجع دون هدم المنزل.

قصة شعر شهيد

في يوم الأحد (15/تشرين الثاني/2015)، كان ليث يقضي ساعاته الأخيرة في المخيم، وقد ألمح بذلك لكل من حوله. إذ توجه إلى صالون الحلاقة الخاص بخاله إيهاب، والذي كان ملتقى لشباب المخيم، وطلب أن يُحلق له شعره دون لحيته، وعندما انتهى بدأ يسأل أصدقاءه: "قصة شعر شهيد ولا لاء؟".. وعندما أظهر ابن خالته استغرابه، رد عليه: "ألا يليق بي أن أكون شهيدا؟!".

13646835_10208819282615987_875934858_o

بعد منتصف الليلة ذاتها اقتحم ما يزيد عن ألف جندي مخيم قلنديا ترافقهم آليات عسكرية وجرافة، إضافة لطائرة استطلاع، وذلك من أجل هدم منزل الأسير أبو شاهين الذي اتخذ مجموعة من الشبان على عاتقهم مهمة حمايته.

لم يكن ليث قد عاد بعد إلى منزله، ورغم أن والده عتاد كلما سمع عن اقتحام للمخيم أن يسارع للبحث عن أبنائه وإعادتهم للمنزل، إلا أنه لم يفعل ذلك في تلك الليلة، وحتى يومنا هذا لا يعلم ما حصل له وزوجته، إذ جلسا في البيت كأنما ربط على قلبهما ويداهما مقيدتين.

خلال الاقتحام كان ليث يتحدث عبر تطبيق "زيلو" قائلا: "الليلة رح استشهد"، وفي الساعة الواحدة والنصف فجرا عاد إلى منزله رغم الانتشار الكثيف لجنود الاحتلال الذين اشتبكوا مع عدد من المقاومين المسلحين.

إعدام بدم بارد

جلس ليث قليلا في المنزل بعد أن تناول العشاء ثم صعد إلى سطح المنزل، في تلك الأثناء كان والد ليث يقول لأمه: "شكلهم ولادنا بدهم يحسرونا طول العمر"، وما هي إلا ثواني معدودة حتى سمعا صوت ارتطام.

صعد والد ليث سريعا برفقة نجليه للسطح فوجدوا ليث مصابا وفاقدا لوعيه، فأحد القناصين أطلق عن سطح منزل مجاور رصاصة "250" أصابت كتفه وخرجت من خاصرته، حملوه سريعا مانعين والدته من رؤيته، وسلكوا طرقا التفافية لأن سيارات الاسعاف كانت ممنوعة من الدخول، وعندما وصلوا نهاية المخيم فوجئوا بقوة من الجيش.

أوقف جنود الاحتلال السيارة وأجبروهم جميعا على الترجل، أما ليث فقد وضعوه في منتصف الطريق وشرعوا بالتحقيق مع البقية، "كيف أصيب؟ ولماذا؟ وأين؟". وبعد 45 دقيقة استدعى الضابط الإسرائيلي أحد الجنود الأطباء وطلب أن يفحص ليث، قال الطبيب بالعبرية: "انتهى"، حينها قال الضابط لوالد ليث: "خذوه واذهبوا للمستشفى".

13647068_10208819281815967_475201537_o

يستذكر والد ليث بألم وحسرة الوقت الطويل الذي مر وهو ممنوع من إنقاذ ابنه الذي ينزف أمامه. يقول: "عندما تريد فعل أي شيء لإنقاذ حياة فلذة كبدك ولكن هناك من يقيدك ويمنعك من ذلك، شعرت وكأن كل شيء بداخلي يتمزق وأنا أرى ليث ينازع الموت ببطء".

ويضيف، "22 عاما وأنا أرى ليث يكبر أمامي كل يوم، عاما بعد عام حتى أصبح شابا جميلا، وفي لحظة وبرصاصة أفقده طيلة حياتي، الفرحة لن تدخل بيتنا بعد استشهاد ليث".

أما والدة ليث فلم تستطع وداعه في جنازته بسبب كثرة المشيعين والمعزين، فقد تمكنت فقط من لمس قدميه، وهي اليوم تذهب لقبره كل أسبوع وتتحدث معه، لكنها لا تستطيع أن تصدق أن نجلها البكر ذهب ولن يعود.