حال انتهاء الحرب الاسرائيلية الثالثة التي استهدفت مسقط رأسي خلال العام الماضي، هرعت لمذكرتي كي أكتب هذه الملاحظة الصغيرة، ملاحظة لأتذكر أن إعلان الهدنة اليوم ضمن لي النجاة من الحرب الثالثة، لقد نجوت من الموت في ثلاثة حروب، كم بقي لي، لا أدري.
توقف القتل .. لكن الألم على المفقودين لم يتوقف.
توقف القتل... لكن الجراح لم تلتئم بعد
توقف القتل.. لكن أي من المنازل تلك لم يعد قائماً
توقف القتل.. ولم تبرأ نفوسنا من التعب حتى الآن.
أن تكتب عن غزة دون الحديث عن الحرب أو الموت يعد أمراً صعباً ومستحيلاً، هنا، في غزة، قتل الموت نفوسنا واستقر في الداخل، وبدلاً من أن يواصل رحلته الأزلية بالذهاب والعودة قرر أن يستقر في دواخلنا، انه يعيش فينا لا أعرف كيف يمكن أن توجد حياة يحيط بها كل هذا الموت مع كل هذه الخسائر وكل ذاك البؤس.
مر عام على ذاك الاعتداء غير الرحيم، وأظن أن الحرب الآن تفشت فينا، وأن آثارها النفسية علينا باتت الأثر الأكبر الآن. قوائم الموتى والمصابين والمنازل المدمرة كل ذلك توقف، لكن سهم الحرب في صدورنا لم ينزع حتى الآن. الحرب في غزة أكبر و أعمق من كل تلك الإحصاءات، إنها لا تنتهي.
ليس من العدل أبداً أن أكتب عن الحياة في غزة دون أن أتذكر أولئك الذين يعانون في كل تفصيل صغير من تفاصيل حياتهم وروتينهم اليومي، دعونا نتذكر الآن أولئك الذين فقدوا منازلهم ويعيشون الآن في قوافل، نسميها قوافل الموت. دعونا نتذكر "ايمان" التي يجب عليها ان تمر في ظروف حياة قاسية خلال هذا الشتاء البارد في ظرف لا يمكن تسميته إلا بالجنون.
إيمان أبو حليمة، تزوجت لـ 6 سنوات، كانت في أوائل العشرينات من عمرها وهي أم لـ 4 أطفال، عاشت حياة جميلة قبل أن تبدأ عملية الاحتلال ضد غزة صيف 2014. كانت تعيش في منزل جميل كبير ضم 30 شخصاً من أفراد عائلتها في حي الشجاعية. هذا المنزل الكبير الواسع الجميل وحتى ال 30 شخصاً. كان كل ذلك حقيقة قبل فجر تلك الجمعة السوداء.
سقطت قنابل الاحتلال على المنزل وعلى رؤوس أصحابه، هربوا في ساعات الصباح وعادوا فور أن ظنوا أن الأمور قد هدأت. وكما هو الحال مع جميع من حولهم لم يجدوا إلا كومة من الرماد.
كومة من الرماد كانت عبارة إيمان الوحيدة لوصف بقايا منزلها المدمر بقذائف الاحتلال والذي أصبح الآن فقط محض ذكريات قديمة جميلة.
"كانت لدينا الحياة هناك، ذكريات أفراح وأتراح، كل ذلك دفن تحت تلك الأنقاض". ذهبت كل قصصنا هناك، هذا الكم الكبير من المشاعر الذي أمتلكه الآن لم يعد له أي معنى، هذه الروائح التي ما زلت احتفظ بأثرها لن تعود ذا قيمة أبداً، المنزل يأخذ منا وقتاً كبيراً لتجميع ثمنه وبنائه ووقتاً أطول لحشد كم كبير من الذكريات والأفراح داخل جدرانه، لقد ذهب كل شيء.
وعلى الرغم من كل هذا الألم، إلا أن حياتها الحالية تبدو ضئيلة وصغيرة في ظل هذه الكرفانات البيضاء. زوج عاطل عن العمل، وبيت أبيض تبرع لنا به أناس يعيشون في الغرب وذكريات من الألم بتنا غير قادرين على حصرها الآن.
المظاهر خادعة، الكرفانات لا تبدو سيئة للغاية، لكنها في الصيف تشبه الفرن كثيراً وفي الشتاء تتحول إلى ثلاجة صغيرة. محنة كل يوم تبدأ منذ أن يستعد هيثم "أحد أبنائها" للذهاب إلى المدرسة، أذكر أن معدلاته كانت أعلى بكثير حين كنا في ذلك المنزل، اليوم درجاته ما زالت تنخفض باستمرار إنه لا يستطيع إكمال واجباته المدرسية حتى داخل هذه الكرفانات البيضاء.
أحدث من انضم إلى هذه العائلة هو شاهر، ولد شاهر في حرارة الصيف وابتلي بلدغات البعوض ولم يرحمه الطفح الجلدي ولا درجات الحرارة العالية الصيف الماضي. أسرة لا تقدر على تحمل الأدوية فلا دخل ثابت ولا عمل منتظم. المياه غير نظيفه، وأصبح العدل لنا أن نأخذ وجبة واحدة من الطاعم كل يوم، بعض الخبر والطماطم وأحياناً نستبدلها بالمربى فقط.
ربما تكون قد نجت فعلاً من الحرب تلك إلى جانب أفراد عائلتها الخمسة، لكن ألم فقدان شيء خاص وعزيز عليها لم يفارقها. من الصعب تخيل كيف تستطيع إيمان وعائلتها الصمود في وجه برد الشتاء القارس هذا، أمام صوت المطر وهو ينهمر على غطاء الكارفان وأمام كل تسريب للمياه داخله. ربما تكون الحرب قد انتهت فعلاً، لكنها ما زالت تعيش مع إيمان وعائلتها وغيرها الكثير وهي تكافح للمحافظة على وسادة دافئة لأطفالها. كما تكافح لتعليم ابنها وهي تكافح لاستبدال أصوات انهمار المطر على الكارفان بأصوات أخرى أجمل وذكريات أفضل.