يعيش الفلسطيني مشكلة حقيقية تتمثل في عدم قدرته على التغير حسب مقتضيات الحاجة. ولعل لذلك أثر ممتد من التعليم الديني والثقافي في المجتمع. فالنفاق أسوأ من الكفر، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار، وكالعادة خلط العربي – ومنه الفلسطيني – بين حكم الدين وحكم الثقافة.
ومع ظهور فيديو الطفل أحمد مناصرة وما يتعرض له من صراخ وتهديد وتعذيب نفسي في أقبية تحقيق الاحتلال، برزت هذه الأسئلة – ذات الخلفية الاجتماعية – مجدداً. فكيف لدولة الاحتلال التي تتغنى بحرياتها والديمقراطية فيها أن تسمح بنشر فيديو مثل هذا للعلن؟ وأي رصيد سيضيف للاحتلال هكذا فيديو؟
علينا أن ندرك أن هذا الفيديو ليس الأول من نوعه الذي يكشف إجرام الاحتلال، فخلال الانتفاضة الثانية مثلاً، انتشر فيديو استشهاد محمد الدرة انتشار النار بالهشيم، واستخدمه نشطاء الحق الفلسطيني حول العالم للترويج حول نازية الاحتلال وعنصريته وبشاعة تصرفاته، ناهيك عن آلاف الفيديوهات التي فضحت ممارسات الاحتلال خلال حروب غزة الأخيرة وغيرها.
إلا أن كل هذا – سواء لفيديو محمد الدرة أو غيره وما أكثرها – لم يدفع الاحتلال للتوقف عن سياسته العنصرية والفاشية بأفضل تعبير.
وبين هذا وذاك، يبرز دوماً سؤال من بعيد لكل الناشطين والحقوقيين، ما جدوى سعينا المستمر نحو استنكار دولي لجرائم الاحتلال رغم ان الاحتلال لا يأبه، أو بشكل آخر العالم نفسه لا يأبه، فلم يتوانى الرئيس الأمريكي أوباما على سبيل المثال عن تأكيد حق “إسرائيل” في الدفاع عن نفسها تجاه العنف الفلسطيني ولن نستغرب إن تبع هذا التصريح تصريحات شبيهة من هنا أو هناك تؤيد رد فعل الاحتلال على ما أسموه العنف الفلسطيني.
فهل يجب علينا أن لا نعول على مجتمع دولي نراه متخاذلاً كل يوم، وبعيداً عن نصرة أطفال لا يملكون إلا دموعهم وأصواتهم للدفاع عن أنفسهم، وهل يجب على الفلسطينيين حقاً أن يوقفوا عنفهم – المزعوم – هذا ليحظوا بدعم المجتمع الدولي وشفقة أمريكا ومن حولها؟
قد تكون لا الجازمة هنا كافية للإجابة على هذين التساؤلين، ولكن يبقى أمامنا بحث مطول عن الوسيلة الأفضل للمزاوجة بين هذين الفعلين.
بدراسة بسيطة لتجربة الدعاية اليهودية التي لحقت المحرقة مثلاً، وهي ما أُثرت كثيراً في تكوين تصور الغربي عن إسرائيل يمكننا ملاحظة أن اليهود كانوا ممتازين في فن “التلون”.
تارة يظهر اليهودي الفنان المرهف الساعي للحياة، الراكض لحفظ حياته من بطش النازيين، وتارة يظهر اليهودي قائد عصابة الذبح التي جالت في فرنسا – إبان احتلالها في الحرب العالمية الثانية – والتي كانت تعد قتلاها من النازيين عن طريق قطع فروة رؤوسهم. “مشاهد حقيقية من افلام أمريكية تصف تلك الحقبة”.
أما نحن على صعيدنا الفلسطيني تحديداً، فنرى كم المطالبات لوسائل الاعلام – التقليدية او المجتمعية منها – لتبني خطاب متوسط يساعد على الترويج لإنسانية القضية وعدلها وظلم الاحتلال. ويبتعد عن إبراز أو تهويل أي بطولة فلسطينية صغيرة كانت أم كبيرة.
ونتناسى دوماً أن رسالة الإعلام تحدَد بمستقبلها، فرسالة الاعلام الفلسطيني داخلياً لا يمكن ان تتشابه مع مضمون تلك الرسالة الخارجية، وهو ما أعنيه في هذه الأسطر بشكل صريح، نحتاج ” التلون” أو بصيغة أفضل، تحتاج أن نكون إعلام حقيقياً ذا رأي مساند للمقاومة وكاشف للاحتلال تتغير مضامين خطابه بتغير المتلقي لا بتغير المرسل.
ولعل الأمر يتكرر مجدداً هنا في فيديو المناصرة، فباستطلاع بسيط لتجربة الشباب الفلسطينيين في أقبية الاعتقال، ترى أن هذا الفيديو هو التجربة الأولى لهم لمعرفة ما يجري حقيقة خلف أقبية التحقيق وبين يدي المحققين، فهو جيد لنقل التجربة والخبرة للشباب الفلسطيني المهدد بالاعتقال في أي لحظة. ناهيك عن كم التذكير للفلسطينيين بأنهم ما زالوا تحت الاحتلال وهو ما يبرع الاحتلال يومياً بتذكيرنا به.
ومن ناحية أخرى، فبإمكان هذا الفيديو أن يمثل دفعة قوية لحركة مقاطعة الاحتلال – الشعبية – حول العالم، هذا إن أحسنا استغلاله ونشره بشكل يليق بتضحيات بطل في مثل بطولة أحمد ورفاقه في السجون. فالفيديو وغيره سيفيد حتماً في دعم موقف القضية الإنساني أمام الشعوب حول العالم.
وبانتظار أن تأتي حكومة عالمية قوية تمثل رغبة الشعوب الحقيقية المعترفة في الحق الفلسطيني، فعلينا أن نستمر في مقاومتنا وكفاحنا وتوثيقنا للجرائم اليومية في حقنا. قد لا تفيد هذه التوثيقات اليوم كثيراً، لكنها بكل تأكيد ستفيد في يوم من الأيام وستمثل رافعةً للقضية لم نكن نتخيلها بيوم.
وكما قال درويش: وعلينا نحن أن نحيا كما نحن نشاء.