كتب: جولدن ليفي
سيغفر القراء لي عدم تقديم أي شرح أو تحليل أكثر ملاءمة في هذه المرحلة عندما أتحدث عن احتمال اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة أضخم مما كانت عليه في أي وقت مضى خلال العقد الماضي. في الواقع، لا يمكننا وصف أي شخص يدعي المفاجأة بقرب حدوث هذه الانتفاضة إلا بمن يدفن رأسه في الرمال مخافة أن يرى الواقع حوله خلال السنوات العشرة الماضية.
من الواضح أن القيادات الأمنية في الاحتلال تحاول التقليل من الأحداث الجارية حالياً بوصفها على أنها لا تتعدى سوى "موجة من الإرهاب" تمر وتنقضي دون تحولها إلى انتفاضة حقيقية على الأرض، تصريحات تكررت قبل اندلاع الانتفاضات السابقة دون أن تتصدى لهم.
أذكر أنني التقيت إبان اندلاع الانتفاضة الأولى بأعضاء الوفد المرافق لوزير الجيش آنذاك "اسحاق رابين" والذي كان في زيارة للولايات المتحدة في تلك الفترة، قالوا لي حينها أنه لا يوجد سبب للإسراع في العودة إلى “إسرائيل”، كل شيء تحت السيطرة، ونفس الأمر تكرر إبان إندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية لكنها اندلعت كذلك بشكل أضخم من الأولى و يبدو أن الثالثة ستكون الأكبر في الانتفاضات التي اندلعت في تاريخ الصراع.
وبغض النظر عن ما إذا كانت الأحداث الجارية حالياً في طريقها للتطور نحو انتفاضة شاملة أم لا، لكن الأمر بات واضحاً بشكل كافي لمعرفة أن المنطقة لن تشهد هدوءً في المنطقة خلال الفترة القادمة. ولعل أهم الأسباب التي تمنع انطلاق انتفاضة ثالثة تتمثل في عظم الثمن الذي دفعه الفلسطينيون خلال الانتفاضة الثانية وفشلهم في تحقيق أي أهداف خلالها بالإضافة إلى تعاظم الانقسام الفلسطيني الداخلي بين حماس وفتح وما يعانيه الفلسطينيون من العزلة الدولية وسط لامبالاة دولية متنامية و التحسن الطفيف الذي طرأ على الوضع الاقتصادي في الضفة الغربية.
لكن هذه الأسباب ستبقى محل نقاش وتغير كبير، فلا يمكن منع اندلاع انتفاضة ثالثة لفترة طويلة، حتى لو نجحت قوات الاحتلال في إعادة المارد الفلسطيني إلى قمقمه هذه المرة، فإن ذلك لن يدوم لفترة طويلة وسرعان ما سيخرج مجدداً ولن تنجح أي محاولة لإعادته هناك من جديد. ولعل تتابع الاحداث هذه المرة يدل على مدى عظم الانفجار القادم.
لا يمكن لنا أن نتجاهل غطرسة “إسرائيل” المستمرة في تعاملها مع الفلسطينيين، فرغم أن الضفة الغربية تشهد حالة من الهدوء منذ قرابة الـ10 سنوات، إلا أن “إسرائيل” أثبتت للفلسطينيين أن أي هدوء يقدمونه سيكافئ بمزيد من تكثيف الاحتلال وهدم المنازل و المزيد من الاعتقالات الجماعية، بما في ذلك آلاف حالات الاعتقال الإداري المعتقلين دون أي محاكمة. بالإضافة إلى مصادرة الأراضي المستمرة و عمليات القتل و الاعتقال التي لا داعي لها بما يستفز مشاعر الفلسطينيين دون أي جدوى عملية على الأرض خاصة فيما يتعلق بمحاولات اقتحام الأقصى المتكررة التي تتم دون أي طائل أو فائدة سوى استفزاز الفلسطينين وجرهم لفعل قد لا تستطيع “إسرائيل” احتماله حقاً.
هل تعتقد دوائر الحكم في “إسرائيل” حقاً ان الفلسطينيين سيستمرون في صمتهم ولن يقوموا بأي رد فعل بعد رؤيتهم للمستوطنين وهم يحرقون عائلة الدوابشة أحياء!؟ بل تتمادى الحكومة بعدم تقديمها أي من منفذي الهجوم للمحاكمة حتى وإن كانت صورية، وما زاد الطين بلة خروج وزير الدفاع "موشيه يعلون" بتصريح يتفاخر فيه أن “إسرائيل” تعرف منفذي الهجوم جيداً لكنهم تحت حماية المخابرات الآن ولن يتم إلقاء القبض عليهم. في نفسي جواب لكل هذا، فأصوات المتدينيين بالنسبة لحكومة نتنياهو أهم من الحفاظ على دولة “إسرائيل”.
هل نظن حقاً أن الفلسطينيين سيقفون مكتوفي الأيدي أمام كل هذه الأحداث والاستفزازات؟ ومع هذا فنحن لم نتطرق لمواضيع حساسة أخرى كانعدام الأمل في التوصل لاتفاق مع “إسرائيل” وفقدان الثقة والأمل بالطرف الإسرائيلي بل حتى بالطرف الفلسطيني الذي يقدم على المفاوضات. هل تملك “إسرائيل” بديلاً حقيقياً لكل هذه الإخفاقات والاستفزازات؟
وعلى الرغم من محافظة الفلسطينيين في الضفة الغربية على هدوء نسبي لقرابة الـ10 أعوام، إلا أن الطرف ال”إسرائيل”ي لم يثبت أحقيته كشريك حقيقي للسلام أو حتى كشريك في المفاوضات الجادة حول وضع الضفة الغربية، وأثبتت “إسرائيل” أيضاً على مدار هذه الفترة عدم امتلاكها لأي نية لإنهاء الاحتلال.سواء ألتزم الجانب الفلسطيني بالهدوء أم لم يلتزم به. ومع الدعم الأمريكي اللامحدود لـ”إسرائيل”، أصبحت قيادة الدولة في حالة من السكر والنشوة والغطرسة ليس لها مثيل.
ويبدو أن “إسرائيل” قد بدأت الآن فعلاً في دفع ثمن تفكيرها المتغطرس في أن الفلسطينيين سيستمرون في الإذعان والخضوع لسياسات استفزازية ظالمة بحقهم إلى أجل غير مسمى، ولعل من فكر للحظة أن الفلسطينيين لن ينتفضوا في وجه الصلف ال”إسرائيل”ي هذا لم يقرأ كتب التاريخ في يوم من الأيام. حيث لم يشهد التاريخ خضوع جماعة لمحتل دون مقاومة فكيف الآن والمقاومة حق دولي معترف به للفلسطينيين.
أما الآن فقد وصل الطرفان لمرحلة اللاعودة، فالموجة الحالية إن لم تقد إلى انتفاضة قريباً إلا أنها ستعمل على تقريب المسافة نحوها، الانتفاضة الثالثة في طريقها أو هي هنا بالفعل، طالما استمرت حكومة نتنياهو بالتصرف بهذا الشكل. فنتنياهو وحكومته وأحلافه المتطرفين سواءً القوميين منهم أو الدينيين، ليس لديهم أي نية لفعل أي شيء يحول -فعلاً- دون اندلاع الانتفاضة، فحكومة كهذه لن تتسبب إلا بمزيد من سفك الدماء ونقاط التفتيش والاعتقالات والدمار والقتل، هذه هي اللغة الوحيدة التي تستخدمها حكومة نتنياهو في التعامل مع الفلسطينيين.
ولعل هذه الحقيقة وتعنت الحكومة ال”إسرائيل”ية في التعامل مع الفلسطينيين ضمن منهجية ظالمة ومستفزة يضع المسؤولية الأكبر على عاتق المجتمع الدولي، فتصرف المجتمع الدولي مع “إسرائيل” على أنها الابن المدلل لأكثر من نصف قرن أثبت فشلاً مدوياً ليس له مثيل على مر التاريخ.
على “إسرائيل” والمجتمع الدولي أن يدركا أهمية تغيير قواعد اللعبة، خاصة الولايات المتحدة التي ثبت أن اتصالاتها ودعمها لـ”إسرائيل” تزيد من تماديها بحق الفلسطينيين، فأمريكا تتحمل بلا شك المسؤولية الكاملة عن نتائج المرحلة المقبلة، وعلى جميع الأطراف أن تتذكر أن تفجير صراع في مناطق الضفة الغربية لن يقتصر عليها وحدها، فهناك غزة بقوتها العسكرية وصمودها الأسطوري والمتغيرات الإقليمية حول المنطقة التي لم تعد كما كانت في السابق، ما يعني دخول أطراف جديدة على محاور الصراع وهو ما يحتاج دراسة أعمق لبيان حيثياته.
المصدر: ميدل ايست اي – ترجمة: هيثم فيضي