تتوالى الصدمات الناجمة عن استمرار الانقسام بالرغم من الاتفاقات التي لا تنتهي والجداول الزمنية المتلاحقة، وبرغم تشكيل حكومة وفاقية وحل حكومة "حماس"، لدرجة أن الحكومة عقدت اجتماعًا لها في غزة، وأعلن رئيسها نهاية عهد الانقسام، وأن حكومته ستمارس مهمّاتها، والوزراء سيتواجدون في غزة حتى يقوموا بالواجبات الملقاة على كاهلهم إزاء شعبنا هناك، الذي هو في مسيس الحاجة إلى رفع الحصار، وفتح المعابر، وإعادة الإعمار، وإيواء المشرّدين، ومعالجة المصابين، ومواساة ذوي الإعاقات الدائمة، ومن فقدوا عزيزًا ومعيلًا، أو من فقدوا كل أو معظم أقاربهم. أهل غزة بحاجة إلى المياه الصالحة للشرب والكهرباء ومعالجة البطالة المستشرية والفقر المدقع ... إلخ.
برغم كل ذلك تبين أن حرص الحكومة على عقد اجتماعها بغزة ما هو إلا لزوم ما لا يلزم، فتبيّن أن الاجتماع الذي عقد عشيّة عقد مؤتمر إعادة الإعمار كان يستهدف إنجاح المؤتمر، بدليل أن المهاترات وتبادل الاتهامات والتحريض عادت في الأيام التالية على خلفية الخلاف على من يرابط على المعابر والحدود، وعلى موظفي السلطة القدامى والمستنكفين عن العمل بقرار حكومي، وعلى رواتب الموظفين، وحول أن المصالحة لن تتحقق إلا إذا جرت الانتخابات، وحول المسؤولية عن اندلاع الحرب وتقييم نتائجها، وهل كان يمكن تجنبها أم لا؟، وجدوى المقاومة ومكانها في إستراتيجية الكفاح الفلسطيني في ضوء دروس وعبر العدوان الأخير، وأخيرًا حول السلطة الواحدة والسلاح الشرعي الواحد.
باختصار، "عادت حليمة لعادتها القديمة" بالرغم من المخاطر والكوارث المحدقة بالقضية الفلسطينية، التي تهدد أكثر من أي مرة سابقة بتصفيتها، وتعرّض الفلسطينيين، خصوصًا في القدس لأسوأ المخاطر والعواقب.
يستهدف الاحتلالُ الإسرائيليُ الفلسطينيين على اختلاف فصائلهم، فهم مقسّمون عند قادة إسرائيل، بمن فيهم رئيس الحكومة ووزراؤه، خصوصًا وزيري الحرب والخارجية، بين من يمارس الاٍرهاب العسكري، الذي لا يختلف عن "داعش"، وبين من يمارس الاٍرهاب الديبلوماسي واختار التحالف مع "حماس" والإرهاب بدلًا من اختيار إسرائيل والسلام.
في ضوء ما سبق، ما الذي يفسر استمرار الانقسام برغم اتضاح أهواله على القضية الفلسطينية والفلسطينيين؟
هل صحيح أن الانقسام مستمر لأن الفلسطينيين مختلفون بين طريق المقاومة وطريق المفاوضات، وما يعنيه ذلك من وجود خطين متوازيين لا يمكن أن يلتقيا، أم أن الأمر يرجع إلى الخلاف والصراع على السلطة والتمثيل والقرار الفلسطيني أكثر؛ ما يعكس خلافًا حول المقاومة والمفاوضات، بدليل أن "فتح" و"حماس" وهما أكبر تنظيمين وطرفا الانقسام يتقاطعان في العديد من النقاط الجوهرية، بدليل الوثائق الوطنية المشتركة من "إعلان القاهرة"، مرورًا بـوثيقة الأسرى وثيقة الوفاق الوطني، وانتهاء باتفاق المصالحة وملحقاته و"إعلاني الدوحة والشاطئ".
كما أن استمرار الانقسام يرجع إلى العوامل والتدخلات الخارجية، خصوصًا العامل الإسرائيلي، الذي لا يعتبر عاملا خارجيًا، لأنه يمثل الدولة المحتلة والقادرة على ممارسة كل أنواع التأثير في ظل استمرار التمسك بأوسلو والتزاماته وقيوده المجحفة. ويساهم في استمرار الانقسام أيضًا عدم مبادرة قوة من القوى القائمة وعدم نشوء قوة جديدة تقدم طريق الخلاص الوطني من خلال النظرية والممارسة التي تقدم النموذج الملهم والقادر على قيادة الشعب كما فعلت "فتح" يومها، ولم تعد كذلك، وكما حاولت "حماس" أن تفعل ولم تستطع تقديم بديل ملموس بالقول والعمل.
كل ذلك يحدث في ظل توفر قناعة تكاد تكون إجماعية بأن طريق المفاوضات الثنائية برعاية أميركية قاد إلى الكارثة، ولا يمكن الاستمرار به، وتتزايد القناعة بضرورة اعتماد مقاربة جديدة تجمع ما بين استخدام كل أشكال العمل السياسية والنضال، وعلى رأسها المقاومة المسلحة من دون اعتبارها صنمًا نعبده، وإنما وسيلة لتحقيق الأهداف والمصلحة الوطنية، ويجب حتى تكون فاعلة أن تكون جزءًا من إستراتيجية أو إستراتيجيات جديدة، وتخضع لمرجعية وطنية تحدد التوقيت والمكان وأشكال النضال المناسبة، بما تأخذ بالحسبان الظروف والخصائص المميزة لكل تجمع فلسطيني، وتأثير المتغيرات والمستجدات العربية والإقليمية، التي لا تسمح في هذه المرحلة بتبني المقاومة المسلحة كإستراتيجية للتحرير، لأنها بحاجة إلى دعم وعمق عربي وإقليمي ودولي، ما يجعلها إستراتيجية للدفاع في وجه الاعتداءات الصهيونية ومنعها من تحقيق أهدافها. القناعة الجديدة تتقدم ببطء والطرق القديمة البائسة لا تزال مصرة على البقاء، وهذا يؤدي إلى التردد والانتظار .. والانتظار قاتل.
إن ما يمنع المصالحة الحقيقية والشراكة التي هي كلمة السر التي يمكن أن تفتح أبواب الوحدة؛ أن كل طرف يعتقد أن من حقه وبمقدوره وحده قيادة السفينة الفلسطينية من دون مشاركة القوى الأخرى إلا كملاحق ذيليّة. وهذا الأمر قاد ويقود إلى اتباع سياسة إقصاء من كل طرف للطرف الآخر، وعندما تتخذ خطوات وحدوية يتم ذلك مؤقتًا وتحت ضغوط اضطرارية، إذ إنها تكون تكتيكًا وليست إستراتيجية، والوحدة ضرورة وليست مجرد خيار من الخيارات، وعندما يتم التعامل معها على هذا الأساس سيتم طَي صفحة الانقسام إلى الأبد.
ما بين الإقصاء والاحتواء في أحسن الأحوال، ضاعت الوحدة، وأخذت معها القضية والأمل الفلسطيني.
يجب أن تكون الشراكة على أساس أن يأخذ كل طرف ما يمثله في الساحة الفلسطينية بناء على نتيجة صندوق الاقتراع إذا أمكن الاحتكام إليه، وإذا كان من المناسب الاحتكام إليه، وعلى أساس الوفاق الوطني ومبادئ الجبهة الوطنية عندما يتعذر إجراء الانتخابات، فقانون الوحدة على أساس قواسم مشتركة وتنظيم الخلافات تحتمه طبيعة المرحلة الناجمة عن أن فلسطين تحت احتلال إحلالي استعماري استيطاني عنصري لا يزال مفتوحًا على تطبيق أهدافه الجذرية، وغير مستعدة لتسوية ولا مساومة ولا حل وسط، بالرغم من أن أي حل وسط ينطوي على ظلم تاريخي لا سابق له للفلسطينيين.
لا يمكن أن تتحقق الوحدة من خلال المناشدة والمطالبة وانتظار صحوة الضمير فقط، وإنما عبر الضغط الممارس من الشعب الذي يرفض الانقسام بغالبيته، بما في ذلك معظم أعضاء وكوادر "فتح" و"حماس"، ومن مصلحته الوحدة، وعندما تنظم العناصر والقطاعات والتنظيمات التي تعبر عن الإرادة الشعبية نفسها بصورة كافية لفرض إرادة الشعب بالوحدة وفرضها على عناصر وجماعات الانقسام؛ عندها يمكن إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة.
أما الانتظار حتى يتمكن طرف من هزيمة الطرف الآخر نتيجة تطورات خارجية إسرائيلية أو عربية أو إقليمية، أو التعايش مع الانقسام والاكتفاء بإدارته انتظارًا إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولًا، أو استخدام الحاجة لرفع الحصار وإعادة الإعمار لإقصاء طرف وحلول سلطة محل أخرى، فما تقدم هي وصفات للخراب الذي عانينا ولا نزال نعاني منه.
نعم، نريد منظمة واحدة تمثّل حقًا وفعلًا الشعب الفلسطيني داخل الوطن وخارجه، وقيادة واحدة، وإستراتيجيات واحدة، وحكومة وفاقية - حقًا - تكون أداة لخدمة البرنامج الوطني، ووزاراتها وأجهزتها الأمنية وكل هيئاتها تخدم الشعب والمصلحة الوطنية، ونريد سلاحًا واحدًا. كما نريد مقاومة لها قيادة ومرجعية واحدة وخاضعة للمصلحة الوطنية، وهذا كله لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال شراكة كاملة (من فوق لتحت ومن تحت لفوق). هل هذا سهل؟ لا، هل هو مستحيل؟ لا، إنه صعبٌ، ولكن من دون ركوب الصعب لا يمكن تحقيق الأماني والأحلام والأهداف الكبيرة.