في عام 2010 حدث بعض التغيّر على سياسة السلطة في الضفة الغربية في التعامل مع المعتقلين السياسيين لديها، حيث توقّفت أشكال التعذيب العنيف التي كانت تنتهجها قبل ذلك، وجاء ذلك عقب تقارير لمنظمات حقوقية دولية وثّقت حالات تعذيب شنيعة في سجونها، وبعد عدة حالات وفاة بسبب التعذيب. غير أن هناك استثناءً واحداً لم يشمله هذا التغيّر وهو (الاعتقال على خلفية المقاومة)، أي مقاومة الاحتلال، فالمقاوم الذي يُعتقل بسبب تنفيذه عملية ضد الاحتلال أو التخطيط لذلك أو حيازة سلاح ظلّ يخضع لتعذيب مفتوح لا يتوقّف إلا بانتزاع المعلومات المطلوبة، وهذه بدورها تحوّل (بصورة مباشرة أو غير مباشرة) للمخابرات الإسرائيلية التي لا تكتفي – بطبيعة الحال – بالمدة التي يقضيها المعتقل في سجون السلطة، فتعيد اعتقاله والتحقيق معه بعد إفراج السلطة عنه.
هذه القضية على وجه الخصوص لا تملك السلطة إنكارها، لكنها تقارف ما هو أبشع من الإنكار حين تدّعي أنها تعتقل المقاوم لحمايته من استهداف الاحتلال، ولا يخجل الناطق باسم الأجهزة الأمنية عدنان الضميري من ادعائه بأن اعتقالهم المقاومين يحميهم من الاغتيال الصهيوني، ذلك أن مفهوم حماية المقاوم يتعارض كلياً مع تعذيبه الشديد وشبحه أياماً طويلة في مسلخ أريحا، أو قتله تحت التعذيب كما حصل مع مجد البرغوثي وفادي حمادنة ومحمد الحاج وهيثم عمرو وكمال أو طعيمة!
ولعلّ أهم ما في قضية الاعتقال السياسي أنها تتجاوز مفهوم الحريات المغيبة، أو حالة الانقسام التي يُعلّق عليها كثير من الفلسطينيين مآسيهم ويحسبون أن انتهاءها مقترن بنهاية الانقسام، فالاعتقالات سياسة متجذّرة في مشروع السلطة، وحدثت منذ تأسيسها، ولم تتوقف إلا بعد انطلاق انتفاضة الأقصى نتيجة فقدان الأجهزة الأمنية سيطرتها على الأوضاع الداخلية، ثم عادت لتطلّ بوجهها القبيح عام 2007 مستغلة هذه المرة مشجب الانقسام.
إن ملخّص القضية كلّها أنها اعتقالات تنفّذ لحساب الاحتلال، ووفق معاييره وقوانينه في الاستهداف والملاحقة، فالقضايا التي يحاسب عليها المعتقل لدى محاكم السلطة والاحتلال واحدة، وهذا لا يقتصر فقط على العمل المقاوم، فحتى النشاط التنظيمي والعمل الإغاثي والطلابي والسياسي يخضع للمساءلة وفق معايير الاحتلال، فما يزعج الاحتلال يزعج السلطة والعكس صحيح، بل إن الأخيرة ملزمة (وفق الاتفاقات الأمنية) بالسهر على أمن الاحتلال قبل أمن الفلسطيني، وبمعاملة المقاوم كإرهابي خارج عن (الصف الوطني) كما ينعق ناطقوها الذين لا يجيدون غير الكذب والتدليس ويمتهنون التضليل بحرفية واضحة!
ولذلك تبدو الحملة التي أطلقها ناشطون على مواقع التواصل تحت عنوان (الاعتقالات مش وطنية) أفضل ما يعبّر عن هذه القضية، ويصنّفها بشكل صحيح بعيد عن المصطلحات المنمقة التي تميّع حقيقتها وتجعلها شأناً هامشياً في المشهد الفلسطيني.
ويبدو الآن أن هناك حاجة لفهم أصل كثير من الظواهر السلبية في هذا المشهد، قبل اجترار التعبيرات الإعلامية الدارجة في توصيفها، أو بحث آثارها وما يطفو على السطح فقط من جبلها الجليدي الضارب في أعماق الحقيقة!
وحين نفهم قدر ارتباط السلطة بالاحتلال، سياسياً واقتصادياً وأمنيا، سنفهم لماذا يكتنف المشهد الفلسطيني كلّ هذا التزييف، ولماذا تمعن قيادة السلطة في معركة أوهامها السخيفة، ولماذا تضخّم إنجازاتها قليلة الشأن وتصوّرها معارك فذّة، وسنفهم أيضاً لماذا تحفل سدّة النخب السياسية والثقافية بمفردات تضليلية وتحترف دلق التحليلات الممجوجة على مسامعنا ليل نهار، لكنّها تجبن عن قول الحقيقة أو عرضها أمام الجمهور بأمانة خالصة!
وسنفهم أخيراً لماذا يستمر اعتقال المناضلين، وسيستمر حتى لو وُقّع اتفاق شكلي للمصالحة، ولماذا يعرف المواطن البسيط في الضفة الغربية أن من يعادي الاحتلال يصبح بالضرورة عدواً للسلطة، ثم لماذا يطرح هذا المواطن ذلك السؤال التقليدي كلّما سمع باعتقال أحدهم: "سلطة أم يهود"؟!