هاني المصري
أصرّ الدكتور حيدر عبد الشافي رئيس الوفد الفلسطيني المفاوض إلى مباحثات واشنطن، التي بدأت بعد مؤتمر مدريد للسلام في العام 1991، على ضرورة وقف الاستيطان وقفًا تامًا في أي اتفاق يتم التوصل إليه بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ففشلت المفاوضات ولم تتقدم قيد أنملة، وتحطّمت على صخرة التعنّت والتطرف الإسرائيلي. وبينما كانت مفاوضات واشنطن تسير نحو الفشل المحتم، كانت مباحثات سريّة دائرة في أوسلو توصلت إلى اتفاق لم يتضمن نصًا واضحًا وقاطعًا على وقف الاستيطان، بل اكتفى بالتأكيد على وقف الإجراءات الأحاديّة الجانب من الطرفين؛ العبارة التي تتيح لكل طرف، خصوصًا للطرف الأقوى والمحتل، تفسيرها كما يشاء.
إن عدم تضمين اتفاق أوسلو وقف الاستيطان يعد من أكبر ثغراته، مع أن النص لن يحل المسألة، فهو اتفاق سيئ، وتم توقيعه في زمن سيئ؛ ما يعني أن تطبيقه جاء أسوأ منه. فالاتفاق السيئ يمكن تجاوز سوئه في أثناء تطبيقه إذا جاء في زمن النهوض، والاتفاق الجيد يمكن إفراغه من مضمونه إذا جاء في زمن الانحدار. في هذا السياق، فتحت ثغرة عدم النص على وقف الاستيطان وتجاهل المفاوض الفلسطيني لهذه المسألة البابَ أمام توسع استيطاني رهيب، حيث كان عدد المستوطنين في الضفة الغربيّة المحتلة، بما فيها القدس، عشيّة أوسلو 250 ألفًا، وأصبحوا الآن في آذار 2013 - بعد حوالى عشرين عامًا - نحو 700 ألف مستوطن، أي تضاعف خلال هذه الفترة حوالي ثلاثة أضعاف.
انطلقت القيادة الفلسطينيّة عند توقيعها الاتفاق من آمال هي أوهام، بأن هذا الاتفاق يمكن أن يقود إلى دولة، لأنه ينص على أن الفترة الانتقاليّة ستمتد خمس سنوات تنتهي في أيار 1999، لا بد من التوصل في نهايتها إلى اتفاق لإنهاء الصراع يشمل القضايا النهائيّة الأساسيّة (اللاجئون والقدس والحدود والاستيطان والأمن)، وتحت تأثير هذا الوهم كانت هناك تصورات فلسطينيّة رائجة بألا تتم إثارة احتجاجات كبرى على المشاريع الاستيطانيّة وشق الطرق الالتفافيّة الخروقات الإسرائيليّة، التي طالما كررها الدكتور صائب عريقات، لأن ما لا نأخذه بالمفرق في المرحلة الانتقاليّة سنأخذه بالجملة في الاتفاق النهائي.
لم يكن المفاوض الفلسطيني يتصور أن إسرائيل بعد أن حصلت على الاعتراف الفلسطيني بها على الرغم من قيامها على 78% من مساحة أرض فلسطين التاريخيّة، بما يتجاوز كثيرًا قرار التقسيم الرقم 181 الذي قامت إسرائيل على أساسه، ستطمع في أي اتفاق نهائي بضم مساحات واسعة من الضفة الغربيّة المحتلة، بما في ذلك القدس. وبلغت السياسة الفلسطينيّة منحدرًا جديدًا عندما جُرَّتْ القيادة إلى التعامل العملي مع فكرة إيهود باراك، رئيس الحكومة الإسرائيليّة الأسبق، على دمج استحقاقات المرحلتين الانتقاليّة والنهائيّة، على الرغم من دفعها ثمن هذه الاستحقاقات من دون مقابل، فباراك كان في أثناء توقيع اتفاق أوسلو رئيسًا لأركان جيش الاحتلال، وتحفظ عن هذا الاتفاق لأنه يعطي الفلسطينيين في المرحلة الانتقاليّة أكثر مما ينبغي بكثير، وتصرّف على هذا الأساس عندما أصبح رئيسًا للحكومة حين أصرّ على ربط المرحلتين الانتقاليّة والنهائيّة، حتى يقلل ما يمكن أن تعطيه إسرائيل في الاتفاق النهائي ويضمن أن تحصل على مقابل فلسطيني جديد يوازيه. وما زاد الطين بلة، أن المفاوض الفلسطيني، باستثناء هبّة النفق التي اندلعت في العام 1996 رفضًا لإقامة مستوطنة في منطقة جبل أبو غنيم، كان يكتفي برفض المخططات الاستيطانيّة، لفظيًّا، وإثارة معارك صغرى بسببها، ويبلعها عمليًا لأنه يعتقد أن الاتفاق النهائي آتٍ، إن لم يكن اليوم فغدًا، إلى أن أخذت الشكوك تتزايد في إمكانيّة التوصل إلى تسوية، خصوصًا خلال الفترة من 2009 حتى الآن.
هذا ما بقي لنا.
كان الطرف الفلسطيني يلتزم ويطبق ما عليه، بينما لا تلتزم إسرائيل ما عليها، وتأتي كل حكومة إسرائيليّة جديدة لتطالب الجانب الفلسطيني بالتفاوض من نقطة الصفر إسرائيلياً، بينما تصر على الانطلاق من نقطة التنازل الأخيرة التي وصل إليها المفاوض الفلسطيني، في حين أن منطق الأشياء وما ينص عليه القانون الدولي، وأي قانون عرفته البشريّة، هو أن العقد شريعة المتعاقدين، وأن التبادليّة مكون أساسي من أي اتفاق، بحيث إذا لم يلتزم طرف ما عليه، فهذا يعفي الطرف الآخر تلقائيًا من التزاماته.
إن ذروة الخطأ الذي وقعت فيه القيادة الفلسطينيّة هو موافقتها على مبدأ تبادل الأراضي، وذلك في قمة كامب ديفيد في العام 2000 ومباحثات طابا في العام 2001، فهذه الموافقة تعني استعدادًا فلسطينيًّا لإعطاء قسم من الأراضي الفلسطينيّة المحتلة عام 1967 لإسرائيل في المناطق الحيويّة في القدس وبقيّة أنحاء الضفة الغربيّة، التي لها أهميّة استراتيجيّة لأسباب سياسيّة وأمنيّة واستيطانيّة واقتصاديّة وتاريخيّة ودينيّة، مقابل أراضٍ في صحراء النقب ومناطق مشابهة داخل حدود إسرائيل ليست لها أهميّة المناطق التي ستضم لها.
كان المبرر الذي دفع المفاوض الفلسطيني إلى هذا المنزلق الخطير هو أن نسبة مساحة الأراضي التي تقام عليها المستوطنات الكبيرة في الضفة التي تريد إسرائيل ضمها إليها لا تصل في أقصى الحدود إلى 2% من مساحة الضفة، وأن التنازل عن هذه الأراضي يمكن أن يساعد على استعادة 98% من مساحة الضفة، إضافة إلى نسبة مماثلة من الأراضي الإسرائيليّة. وهذا المبدأ كسر وحدة الأراضي الفلسطينيّة المحتلة عام 1967 قبل أن تعترف إسرائيل باحتلالها، في الوقت الذي لم تعترف بالحقوق الفلسطينيّة كافة، بما فيها حق إقامة دولة فلسطينيّة مستقلة وذات سيادة على حدود الرابع من حزيران 1967، الأمر الذي أعطى نوعًا من الشرعيّة للاستيطان وفتح باب المساومة على هذه الأراضي، خصوصًا أنه ترافق مع مبادئ أخرى بالغة الضرر، مثل مبدأ تقسيم القدس الشرقيّة على أساس أن ما هو يهودي يُضّم إلى إسرائيل، وما هو فلسطيني يُضّم إلى الدولة الفلسطينيّة العتيدة، وهذا يعني أن نسبة مهمة من مساحة القدس التي أقيمت عليها مستوطنات ستُقتطع لمصلحة إسرائيل، ومبدأ ضم الكتل الاستيطانيّة الكبرى إلى إسرائيل.
إن إسرائيل كما بينت العروض التي قدمتها في المفاوضات حتى الآن لا تكتفي بضم 2% من مساحة الضفة، بل إن باب المزايدات بين الحكومات والأحزاب الإسرائيليّة مفتوح على مصراعيه بين من يطالب بضم 11% على الأقل وبين من يطالب بـ45% وبين من يرفض الانسحاب من أي أرض باعتبارها جزءًا من أرض إسرائيل الكاملة، هذا مع العلم أن من يطرحون نسبًا قليلة يجب أن يضاف إليها أنهم يطالبون بضم مزيد من الأراضي تحت شعار «الاستئجار»، مثل الأغوار التي تشكل 28% من مساحة الضفة؛ لأسباب أمنيّة واستراتيجيّة مختلفة لفترات تمتد إلى عشرات السنين مفتوحة للتمديد، ولا يمكن إلغاؤها إلا بموافقة الطرفين.
يدل ما سبق دلالة قاطعة على عدم وجود إمكانيّة للتوصل إلى تسوية تحقق الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينيّة، وأن أي تنازل يقدمه الجانب الفلسطيني يفتح الطريق لمزيد من التنازلات، وهكذا دواليك، في وقت تستخدم فيه إسرائيل المفاوضات أو المفاوضات من أجل استئناف المفاوضات للتغطية على ما تقوم به من خلق حقائق احتلاليّة واستيطانيّة؛ تجعل إمكانيّة التفاوض مستحيلة مستقبلاً، لأنه لن يبقى ما يمكن التفاوض حوله.
إن فشل قمة كامب ديفيد ومباحثات طابا والتوسع الاستيطاني، خصوصًا في القدس، وقيام إسرائيل بإعادة احتلال الضفة الغربيّة، بمعنى إعادة اقتحام مناطق السلطة المصنفة (أ)، وتدمير بنية السلطة ومقارّها وأجهزتها الأمنيّة ومحاصرة الرئيس ياسر عرفات في مقره في رام لله وصولاً إلى اغتياله مسمومًا؛ أعطى القيادة الفلسطينيّة فرصة تاريخيّة ضيّعتها، للتخلص من التزامات اتفاق أوسلو السياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة، وإغلاق طريق المفاوضات الثنائيّة والحلول الأمنيّة والانتقاليّة التي أدت إلى الكارثة؛ إلى تعميق الاحتلال وتوسيع الاستيطان وتقطيع الأوصال والجدار والحصار وتهويد القدس وأسرلتها وفصل القضيّة عن الشعب والأرض. بدلاً من ذلك وافقت القيادة الفلسطينيّة على خريطة الطريق الدوليّة التي أقرت في العام 2003، التي مدخلها وجوهرها الأمن الإسرائيلي، ووضعت الفلسطينيين تحت اختبار مفتوح لإثبات الجدارة وبناء المؤسسات، وفتحت الطريق لحل انتقالي جديد عنوانه إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل زيارة شارون الاستفزازيّة للمسجد الأقصى في 28/9/2000.
لقد طبق الجانب الفلسطيني التزاماته كاملة في خريطة الطريق، بما في ذلك استحداث منصب رئيس الحكومة الذي استهدف إضعاف صلاحيات الرئيس ياسر عرفات، ولم يطبق الجانب الإسرائيلي التزاماته، بل وربطت الحكومة الإسرائيليّة موافقتها على خريطة الطريق بوضع أربعة عشر تحفظا تعيد صوغها وتجعلها خارطة طريق إسرائيليّة. واستمر الاستيطان وأخذت القيادة الفلسطينيّة تربط موافقتها على استئناف المفاوضات بوقف الاستيطان وقفًا تامًا، بما في ذلك التكاثر الطبيعي، وهذا تطور جيد وإن لم يكن كافيًا، ولكن لم تلتزم به دائمًا، حيث وافقت على المشاركة في مؤتمر أنابوليس الذي عقد في الولايات المتحدة الأميركيّة برئاسة الرئيس جورج بوش الابن، في أواخر العام 2007 الذي كان مجرد منصة لاستئناف المفاوضات الثنائيّة طوال عام 2008 من دون وقف الاستيطان. وتم عقد مفاوضات واشنطن في عهد باراك أوباما في العام 2010، وتبعها لقاءان في شرم الشيخ والقدس بمشاركة الرئيس محمود عباس (أبو مازن)، وثم عقدت مباحثات استكشافيّة في عمان في مستهل العام 2012 من دون وقف الاستيطان. وشهدنا مسرحيّة الوقف الجزئي والموقت للاستيطان في العام 2010 التي أقدمت عليها حكومة نتنياهو آنذاك، بمبادرة ذاتيّة، وتجري هذه الأيام محاولة لإعادة إنتاج هذه المسرحيّة، بحيث يتم استثناء القدس والكتل الاستيطانيّة الكبيرة، بالإضافة إلى إطلاق سراح دفعة من الأسرى مقابل موافقة الجانب الفلسطيني على استئناف المفاوضات وعدم المضي قدمًا في تفعيل المسار السياسي بعد الحصول على الدولة المراقبة، خصوصًا عدم الانضمام إلى محكمة الجنايات الدوليّة.
إن المفاوضات في ظل الاختلال الفادح في ميزان القوى، واعتمادًا على الولايات المتحدة الأميركيّة المنحازة كليًا لإسرائيل، أدت في السابق إلى سلسلة من التنازلات، وستؤدي حاليًا ومستقبلاً إلى تنازلات أخرى. وقد أشارت الأنباء إلى أن وزير الخارجيّة الأميركي جون كيري طالب في جولته الأخيرة عددًا من الحكام العرب بإجراء تعديل على مبادرة السلام العربيّة بحيث يضاف إليها مبدأ تبادل الأراضي، السيئ السمعة، وتعاون إقليمي بما يفتح الطريق لتطبيع العلاقات العربيّة ـ الإسرائيليّة قبل تحقيق السلام، فلم تكتفِ الإدارة الأميركيّة بالتنازلات العربيّة الكبرى المتضمنة في مبادرة السلام العربيّة التي قدمت في قمة بيروت في العام 2002، ورفضتها إسرائيل على الرغم من أنها تطرح سلامًا كاملاً وتطبيعًا للعلاقات العربيّة، وبعد ذلك الإسلاميّة مع إسرائيل، مقابل انسحاب إسرائيلي كامل من الأراضي الفلسطينيّة والعربيّة من الأراضي التي احتلتها في العام 1967.
ومع أن الأنباء ذكرت أن الدول العربيّة رفضت طلب كيري، إلا أن التجربة الفلسطينيّة والعربيّة السابقة أثبتت أن عدم تبني مسار جديد مختلف عن مسار المفاوضات الثنائيّة العقيمة يؤدي دائمًا في نهاية الأمر إلى قبول الاقتراحات الأميركيّة التي تعني تنازلات عربيّة جديدة تفتح شهيّة إسرائيل لهضمها وطلب المزيد من التنازلات.
لا بديل من مسار جديد يقطع الصلة نهائيًّا بما يسمى «عمليّة السلام»، ويعود إلى البرنامج الوطني الفلسطيني، ويعتبر أن جميع التنازلات السابقة لاغية، ويركز على خطاب الحقوق من دون التخلي عن مطلب الاستقلال الوطني، ومن دون أي أوهام بشأن إمكانيّة تحقيقه في القريب العاجل إن لم نقل توفر إمكانيّة لتحقيقه أصلاً، لأن التخلي عن الدولة الفلسطينيّة على حدود 1967 يتجاهل الوقائع والتأييد العربي والدولي لهذا البرنامج، ويمكن أن يعطي شرعيّة للاستيطان.