شبكة قدس الإخبارية

"هاروكي موراكامي" اكتب كأنّك تعزف

محمود عمر
في عام 1964 كان عازف الطبل الأميركي آرت بلاكي يحيي حفلة موسيقية مع فرقته “رُسل الجاز” في مدينة كوبه عاصمة محافظة هيوغو في اليابان. فتى في الخامسة عشرة من عمره كان يجلس بين الحضور مأخوذا بموسيقى الجاز التي يسمعها للمرّة الأولى في حياته، ذلك الفتى يدعي هاروكي موراكامي. الفتى الياباني الذي كبر ليصبح واحدا من ألمع الروائيين في العالم كان قد تلقى تذكرة الحفلة كهدية في عيد ميلاده, لم يدرك موراكامي في حينها أن تلك التذكرة ستغير حياته وحياة الكثيرين من قرائه إلى الأبد. كانت الموسيقى صاحبة البطولة الأولى في حياة موراكامي، فرغم اعجابه بكافكا وديستوفيسكي وبلزاك وقراءاته المتنوعة في سنين شبابه المبكرة، لم يشعر بأنه يملك الموهبة اللازمة للكتابة الروائية؛ سيما وأن لوثة المقارنة مع الكبار كانت لا تزال تسيطر عليه. تخرج من الجامعة وبحث عن الاحتراف في مجال آخر فافتتح بعد جهد مضن في جمع المال، حانةً صغيرة للجاز في طوكيو. كانت الحانة مسرحًا لعازفين هواة وإذاعة صغيرة لبثّ تسجيلات الجاز التي لم ينقطع صداها طوال سبع سنين هي عمر المكان الذي عشقه موراكامي لأنّه مكنه من سماع الموسيقى طوال الوقت. ليس ممكنًا إذًا في معرض الحديث عن موركامي الفصل بينه وبين الموسيقى، والكتابة. كوّن الثلاثة معًا ثلاثيّة واحدة، تمامًا كثلاثيّة هيغل الفلسفيّة، وثلاثيّة الأرشيدوق الموسيقيّة، والثلاثيّة الأوديبيّة – ثلاثيّات نجدها في رائعته “كافكا على الشاطئ”. لم يدخر موراكامي جهدًا في التأكيد على ذلك, يقول في محاضرة ألقاها عام 2005: “الموسيقى! إنّها تعني لي الكثير, لقد تعلمت كل الأشياء عن الكتابة من خلالها”. لم يكن ذلك غزلاً مجوّفًا بل توصيفًا دقيقًا لما حدث، فعندما قرر موركامي كتابة روايته الأولى لم يكن يعرف شيئًا عن تقنيات السرد الروائي. الحل الذي توصّل إليه كان موسيقيًا صرفًا: اكتب كأنّك تعزف. توالى بعد ذلك نتاجه الأدبي، وكانت الموسيقى حاضرةً لا في تفاصيل الأعمال الروائيّة فحسب، بل حتّى وفي العناوين. “كافكا على الشاطئ” هو عنوان لأغنية تؤلفها وتلحنها على البيانو الآنسة ساييكي لحبيبها البعيد. “غرب الحدود شرق الشمس” مقتبسة في جزء منها من عنوان اغنية لنات كينج كول. “الغابة النرويجيّة” عنوان أغنية للبيتلز، “أرقص أرقص أرقص” عنوان أغنية للبيتش بويز. داخل العوالم التي يخلقها موركامي في أعماله يمكن للقارئ أن يحظى بحصّة تعليميّة قيّمة عن الموسيقى، ولكن بعيدًا عن الخشبيّة. يمارس موراكامي نزعته التعليمية تلك عبر جعل شخصيّات رواياته، الرئيسي منها والهامشي، شغوفة بالموسيقى. “هاجيمي” الشخصيّة الرئيسيّة في “جنوب الحدود غرب الشمس” يترك عمله كمحرر في دار نشر ليفتتح -على طريقة موراكامي نفسه- حانة صغيرة لموسيقى الجاز في أوياما. في الحوار الذي يدور بين هوشينو، الشاب الياباني المتأثر بالثقافة الأمريكيّة والذي يربط شعره على هيئة ذيل الحصان ولا يولي الموسيقى -بكل أنواعها- أيّ اهتمام جدّي، وبين صاحب مقهى في رواية “كافكا على الشاطئ”, يسأل صاحب المقهى هوشينو “ألا تزعجك الموسيقى؟” فيرد هوشينو “لا، إنها رائعة. من الذي يعزف؟”. يجيب صاحب المقهى: “ثلاثي روبينشتاين وهيفيتز وفيورمان، ثلاثي المليون دولار، عرفوا بهذا الاسم. الفنانون الكاملون، هذا تسجيل لهم من عام 1941.” ينقطع الحوار ثم يعود ليتصل: – ذكرني ما اسم هذه الموسيقى؟ - ثلاثية الأرشيدوق لبيتهوفن. -مارشي دوق؟ - أرشي. أرشيدوق. أهداها بيتهوفن للأرشيدوق رودولف النمساوي. هذا ليس اسمها الرسمي، إنه بالأحرى الاسم الشائع. كان رودولف ابن الامبراطور ليوبولد الثاني. وكان موسيقيًا ماهرًا جدًا، درس البيانو ونظرية الموسيقى على يد بيتهوفن وبدأ عندما كان في السادسة عشرة. واتخذ بيتهوفن مثالاً أعلى. ولم يكوّن شهرة لنفسه سواء كعازف بيانو أم كمؤلف موسيقي، لكنه كان يقف في الكواليس يمد يد المساعدة لبيتهوفن الذي لم يعرف كثيرًا كيف يشق طريقه في العالم. في حوار آخر بين أوشيما، وكافكا, يسأل كافكا: لماذا تستهويك سوناتات شوبرت؟ -سوناتات شوبرت، وخصوصا هذه، اذا عزفها العازف بطريقة حرفية، فهذا ليس فنًا. وذلك لانها طويلة جدًا ورعوية جدًا، ومن الناحية التقنية بسيطة جدًا، فاذا سمعتها كما هي خلال القيادة، ستشعر أن الطريق سطحيّة وبلا طعم، كقطعة أثرية بالية، ولهذا فكلما حاول أحدهم عزفها أضاف لها شيئًا من ذاته، مثل هذا العازف- اسمع كيف يعزفها مضيفًا “الروباتو” ومعدلاً الايقاع متنقلاً بين درجاتها وما إلى ذلك. وإلا لما خرجت المقطوعة بصورة متماسكة. يضيف: ولهذا أحب سماع شوبرت خلال القيادة، كما قلت لك، لأن كل أداء لها قاصر، نقيصة فنية قاتمة تستفز وعيد، وتبقيك متنبهًا. في نفس السياق, يقول فرانك جالاتي، محرر الطبعة الانجليزيّة من مجموعة قصص موراكامي القصيرة “ما بعد الزلزال” في إحدى مقابلاته: عدد كبير من شخصيّات موراكامي تجيد العزف على البيانو، أو شغوفة بالموسيقى, أو ملمّة جيدًا بتاريخها. يمكن اعتبار الشخصيات مراجعًا في الموسيقية الكلاسيكيّة, أو حتى في موسيقى البوب والجاز والبلوز. موراكامي الذي كتب روايته الأولى في عامه التاسع والعشرين لم يتأثر بالموسيقى فحسب، بل وأثّر فيها. أحد أهم الامثلة على الأعمال الموسيقيّة التي انبثقت من عالم الروائي عاشق القطط والـ “ووكمان” ألبوم “The Wind-up Bird Chronicle” (عنوان كتاب لموراكامي) الذي أصدره الموسيقي الإيطالي ماسيمو فيورينتينو صاحب مشروع Aeroplain. أُرفق الألبوم في كتاب عن الروائي تحت عنوان “A Wild Haruki Chase.” يقول موراكامي: سواء كان الأمر في الموسيقى، أم في الأدب، أهم شيء هو الايقاع. إنّ الأسلوب يجب أن يحظى دومًا بإيقاع ثابت وطبيعي، وإلا فلن يقرأك النّاس. هكذا علّمتني الموسيقى.