لماذا مواجهة العنف هي معركة وطنية وليست مدنية فحسب، المقصود معركة التصدي لمحنة الجريمة التي وصلت إلى مستويات مفزعة، وأشكال مرعبة؟ أو لماذا يجب أن نفهمها ونقاربها على هذا النحو؟ لأنها هي كذلك بالفعل، معركة وطنية وسياسية بامتياز، إذ يأتي هذا العنف في سياق سيطرة منظومة حكم استعمارية عنصرية على سكان البلد الأصليين.
هذا الفهم للظاهرة وسياقها هو شرط ضروري كونه يساعدنا على توفير شروط النجاح أو النجاعة في هذه المنازلة التي فرضت علينا، أو في كبح جماحها وإخماد نيرانها، وحتى لا نواصل الدوران في حلقة مفرغة، أو في اجترار الكلام دون الفعل، أو نقع في فخ المصطلحات والتوصيفات الصادرة عن مـؤسسات نظام الأبرتهايد، التي تستهدف حجب الحقيقة وجذور العنف الاستعماري التاريخية، وتشويه وعينا واستعمار عقولنا. نحن جزء من شعب تعرض، ولا يزال، لعملية استعمارية استيطانية إحلالية بواسطة مولودها، أي إسرائيل، التي تعيد إنتاج هذه العملية الإجرامية منتهكة القيم الإنسانية والقانون الدولي، الذي قامت بفضله.
شرطان أساسيان يجب توفُرهما كي نسلك الطريق الصحيح في هذه المعركة:
الشرط الأول هو تشخيص المشكلة بطريقة علمية. لقد حصل تحوّل جدّي في فهم جذور المشكلة، أي أنها كامنة في الاستعمار الاستيطاني الصهيوني ومنطق المحو وهو بُنيوي، أو في النكبة المستمرة؛ وهو التعبير الآخر المعتمد لوصف الواقع. وفي التداول اليومي يتفادى عرب حكومة المستوطنين هذا التشخيص، ويختزلونه في مفاهيم مثل إهمال، وتمييز عنصري، أو إقصاء، وليس كونه من إفرازات الممارسة الاستعمارية المتواصلة والمخططة والمطبقة عن سبق الإصرار، وأنه جزءٌ من مخطط شرير رُسم منذ اليوم الأول لإقامة هذا الكيان، أي مخطط إضعاف مجتمعنا وتقويضه اقتصاديا وثقافيا ومحاصرته، لدفعه للهجرة مقابل تقوية وتمكين المجتمع الصهيوني الاستيطاني، ومواصلة إغواء وتهجير اليهود من دولهم إلى فلسطين.
الشرط الثاني، وبناءً على هذا الفهم أو على هذا الوعي، يجب تجنيد كل المجتمع الفلسطيني، أي الجماعة القومية، كونها كلها مستهدفة. والمعركة الوطنية التي تتضمن بعدًا سياسيًا وثقافيًا، تتطلب حشد الناس المتضررين، أي جميعنا، وليس فقط من يُقتلون، لأن الضرر طاولنا جميعًا. وهذا يقتضي توفير أدوات وبرامج وإستراتيجيات عمل؛ عمل سياسي وتنظمي وتعبوي مبتكر. ولم يعد ممكنًا كبح هذه الظاهرة سوى بالتحشيد الشعبي، ودمج مسارات مختلفة، مثل المسار البحثي والشعبي والسياسي والقانوني والعمل الدولي، كجزء من عملية مقاومة هذا العنف، والضغط على مـؤسسة نظام الأبرتهايد ولقف التلاعب بمصيرنا، وأن تأخذ دورها كما يقضي القانون الدولي، أي حماية الناس الذين تستعمرهم أو تحكمهم.
لقد صدرت دراسات هامة عن جذور العنف، وكذلك تصورات وبرامج عمل هامة، من قبل المؤسسات العربية التمثيلية المحلية، وعن مؤسسات أكاديمية وبحثية؛ غير أنه لم تجرِ حتى الآن دراسة جدية منهجية أو ورشات تفكير وتخطيط لكيفية تفعيل وتنظيم الشارع، وكيفية إحداث تحول في مزاج الناس، وجعل المشاركة الشعبية المنتظمة والدائمة ممكنة. في العام الماضي ظهرت مجموعات وطنية شبابية عديدة ورائدة لمحاربة العنف في عدد من البلدات العربية، وأبلت بلاء حسنًا، ولكنها توقفت ولم تجر حتى اليوم مراجعة أو بحث من أجل الإجابة عن السؤال التالي: كيف نجحت في الانطلاق والاستمرار لعدة أشهر، ولماذا انطفأت. والجواب يجب أن يأتي من المؤسسات التمثيلية التي عجزت عن تحريك الشارع، وبالقدر ذاته من نشطاء الحَراكات الشبابية والشعبية المستقلة.
في غياب هذه المراجعة وغياب المبادرات المتجددة، وفي ظل انحسار الخطاب الوطني واختزال الخطاب السياسي والعمل السياسي إلى مناكفة وسجال مريرين بين معسكرين ممثلين في الكنيست بأصوات عربية، يحملان توجهًا متشابهًا تجلى في التوصية على حكومة يمينية، ستنشأ وتترسخ حالة تفتت اجتماعي ووطني، خصوصًا وأن جميع أجهزة القمع والرقابة والأمن ستسرح وتمرح في شوارعنا وبيوتنا ومدارسنا ومساجدنا وكنائسنا، بصورة علنية وأكثر كثافة مما كان حتى الآن. وكون هذا الوجود الكثيف المصمم يأتي تحت شعار القضاء على العنف في المجتمع العربي، وبطلب من بعض ممثلي الجمهور العربي، سيحدث المزيد من القبول والتكيف النفسي والثقافي، ما يخلق تطبيعًا خطيرًا مع المؤسسة القامعة، والسكوت على مخططاتها الإستراتيجية الممارسة ضدنا، كشعب له حقوق وطنية جماعية في وطنه.
في مواجهة ذلك، آن الأوان لتفعيل دور الفرد من خلال تجديد المبادرات المحلية وتطويرها، وإيجاد الآليات التي تضمن ديمومة الحَراكات الشعبية. لقد تراكمت لدينا تجربة هامة في ثقافة المبادرات المحلية، الشبابية خاصة، ولكن هذه المبادرات لن تتمكن من تحقيق الديمومة إذا لم ينفتح قادة هذه الحَراكات على عموم المجتمع، أو على النشطاء المخضرمين والأكاديميين والمعلمين والموظفين والنقابيين ورجال الدين، رجالًا ونساءً، شبابًا وكبارًا. إن المحنة التي نعيشها هي محنة اجتماعية وتهدّد الجميع.
نعم، هناك حاجة قصوى الآن لإعادة إطلاق المبادرات المحلية، أي تنظيم المجتمع وفق نموذج "من أسفل إلى فوق"، ووضع خطة من مراحل تبدأ من عملية التنظيم المحلي، وإقامة الاعتصامات في مدخل البلدة أو في ميدانها؛ وتشمل الإستراتيجية برامج تربوية توعوية، تثقيفية، فنية، وتوجيه حول كيفية بناء الحَراكات الشعبية المستدامة التي تولد التأثير والضغط السياسي.
وفي الوقت نفسه، لتجري عملية تشبيك وتشاور وتعاون وتبادل الخبرة في إطار رؤية إستراتيجية موحدة لتحويل هذه الحَراكات بعد أسابيع أو أشهر من العمل والتنظيم، إلى بحر هادر من المشاركة الشعبية، محليًا وقطريًا، في البلدات العربية ومفارق وشوارع البلاد.
لن يحقق هذا النوع من الفعل نتائج فورية، وسيحتاج منا إلى صبر وجلادة، وتضحيةٍ بوقتنا وبراحتنا وبمالنا، وإلى حكمة وتدبّر؛ ولكن من شأنه أن يعيد ما خسرناه من روح التضامن الاجتماعي والتماسك الداخلي، والحس بالجماعة التي تتعرض للتفتيت والتفكك بفعل التغيرات الاجتماعية الاقتصادية الخارجية وما جلبته من نزعة استهلاكية طاغية، وفردانية، ولهاث وراء النجاح الفردي السريع، دون الاكتراث بالجار. وحين يتجمع الشعب ويستعيد روحه وحسه الجماعيّين، وهذا بحد ذاته هدف مركزي وحاجة وجودية، يتحقق هدفان؛ الأول: تنحسر دالة العنف وهذا ما أثبتته التجربة في فترة نشاط الحَراكات وفي هبة أيار المجيدة؛ والثاني: ستبدأ مؤسسة الأبرتهايد بالتراجع عن فواحشها وعدوانيتها، ما يفتح الباب أمام تحقيق إنجازات فعلية لا وهمية، ومن دون التنازل عن إرث كفاحي وثوابت ترسّخت عبر نضالات وتضحيات امتدت على مدار عقود خلت.
في وضع طبيعي أو متقدم، كان من المفترض أن تصدر هذه المبادرة من الهيئة العليا للجماهير الفلسطينية في الداخل، أي لجنة المتابعة العليا، وأن تتابع وتواكب ما يجري في كل بلدة، كما كان عليه الحال أثناء الحملة الشعبية الوطنية ضد مخطط برافر، التي استمرت ثلاث سنوات، من أوائل عام 2011 إلى عام 2013، إلى أن اضطرت حكومة الأبرتهايد إلغاء القانون الاقتلاعي. رغم ذلك، لا تزال هذه الهيئة مطالبة رسميًا بالتصرف ودراسة الفجوة الآخذة في الاتساع بينها وبين الجمهور، وخصوصًا الجيل الشاب وحَراكاته الوطنية والاجتماعية، والتوصل إلى الجواب المطلوب الذي يمكنها أن تؤدي دورًا توجيهيًا وقياديًا وتنظيميًا، وليس تنسيقيًا واهيًا.
نطرح السؤال الكبير مرة أخرى: من يأخذ زمام المبادرة؟ أنا وأنتَ وأنتِ، في بلداتنا وقرانا، وفي أحيائنا. نعم نستطيع!