بعد أحد عشر يوما على تنصيب ترامب رئيسا للولايات المتحدة، كتبتُ مقالة بعنوان "مقاربة ترامب العربية.. سيناريو محتمل"، توقعت فيها أن تعمل إدارته على إحياء ما عُرف سابقا بمحور الاعتدال العربي، على ركيزتين أساسيتين: الحرب على الإسلام السياسي، تحت يافطة "الحرب على الإرهاب الإسلامي"، ودعاية التصدّي لإيران، في استغلال لحاجة دول ذلك المحور التي عانت من أزمة، أقرب إلى أزمة اليتم، مع إدارة أوباما، وفي مدّ لسياسات نظام عبد الفتاح السيسي ودولة الإمارات في حربهما على عناصر القوّة في المنطقة. وفي المقالة نفسها، توقعت أن يُدفع ثمن إحياء هذا المحور من القضية الفلسطينية.
بعد تلك المقالة بعشرين يوما كتبتُ واحدة أخرى بعنوان "عن الصفقة الإقليمية الشاملة"، بعدما تأكد ذلك التوقع، وعلى نحو أكثر تحديدا، في كشف لصحيفة "وول ستريت جورنال" عن تحالف إقليميّ ترعاه إدارة ترامب، يضمّ "إسرائيل" إلى جانب عدد من الدول العربيّة، ويهدف إلى تكريس وجود "إسرائيل" في المنطقة، دون أن تتخلّى عن احتلالها لفلسطين، وإحلال التطبيع المعلن، ولا سيما مع الإمارات والسعودية، مكان تسوية القضية الفلسطينية.
قد تبدو مغامرةً محاولةُ رسم سيناريو دقيق لسياسات إدارة ترامب تجاه منطقتنا، فور ولوجه البيت الأبيض، لكن توقع سيناريو كهذا لم يكن يحتاج إلى الكثير من البصيرة وبُعد النظر، والقدرة الفائقة على التنبؤ، إذ تكفينا سياسات الدول العربية المذكورة، ولا سيما دولة الإمارات، لرؤية الكثير، وبسرعة فائقة، مما يحمله المستقبل القريب، فضلا عن الإدراك الدقيق لطبائع الدول العربية وبناها الهشّة، وسياساتها التاريخية، ومن ثمّ الآماد التي يمكن أن تبلغها في لحظة كالتي نعيشها.
بنظرة إلى الخلف القريب، لاحظنا موقفا مروّعا لكل من الإمارات والسعودية، من عدوان الاحتلال على قطاع غزّة في حرب 2008/2009، أمكننا ملاحظته من إعلام البلدين، والذي تراوح بين الصمت المريب أو الدعم الواضح لعدوان الاحتلال، وفي الوقت نفسه بدأت الدولتان في استهداف كوادر لحركة حماس تعيش فيهما. وكانت الإمارات قد سبقت ذلك بتبنيها لمحمد دحلان، ودعمها إيّاه بالتمويل وشحنات السلاح، إبّان فوز حماس في الانتخابات التشريعية. وأمّا عن تحطيم بقية عناصر القوّة في المنطقة، وخاصّة في قيادة حرب بلا رحمة على الثورات العربية ومطالبها العادلة، فالأمر أقرب وأبين من أن يُذكّر به.
سياسات تحطيم عناصر القوّة في المنطقة، والتي يمكن تلخيصها بالقضية الفلسطينية، وقوى الإسلام السياسي، وفعاليات الثورة المنادية بالحرية والكرامة والإصلاح والمشاركة السياسية، كانت قد استقرت، وصارت قاعدة الهجوم المضادّ لهذه الدول، وهو الأمر الذي تطابق بالكامل مع الرؤية الإسرائيلية. ومع هشاشة البلدان العربية، وما بدا من تراجع الأمان الأمريكي لها، وزيادة التحديات داخل البلدان العربية والتحدّيات الإقليمية، مع ضيق الإدارة داخل الدول الخليجية، التي تختصر قضاياها في مصالح بالغة الضيق لنخب حاكمة، كان لا بد لهذه النخب الحاكمة من الاستناد إلى قوّة إقليمية، تتمتع أولا بعناصر قوّة ذاتيّة، وثانيا بحماية دولية وإقليمية، وهي بذلك تملك نفودا هائلا لدى القوى الدولية، وتحديدا في الولايات المتحدة، هذه القوّة هي "إسرائيل".
لا يبعد أن يطوي الظلام على ما لا يظهر للتحليل، في علاقات بعض نخب هذه البلدان و"إسرائيل"، فسياسات تدمير مكامن القوّة الإستراتيجية لمصر التي ينتهجها عبد الفتاح السيسي، وسياسات العداء لقضايا المسلمين في العالم التي تنتهجها الإمارات، مهما بعدت عن مجالها الحيوي، بل وحتّى المبالغة المحمومة في العداء لجماعة الإخوان المسلمين، يصعب تفسيرها بظواهر مدركة وقريبة، مما يشير إلى ما هو أكثر عمقا حتّى من المصالح والمخاوف سالفة الذكر.
والحاصل، أنّ التحالف الإستراتيجي والعضوي كان قد دُشّن منذ زمن، بين تلك البلدان و"إسرائيل"، بدءا بدولة الإمارات التي بدت وكأنّها من يقود المحور الجديد، المتأسّس في حقبته الراهنة، لا على موقف "الاعتدال" من الاحتلال ضمن معالجة كانت مقبولة على قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وإنّما على موقف التحالف مع الاحتلال، وتصفية القضيّة الفلسطينية، ثمنا يُدفع سلفا لـ"إسرائيل"، وفي إرادة ذاتية لتصفيتها، ومحو ما بقي من ثوابتها، باعتبارها من عناصر القوّة في الأمّة، وهو أمر مقلق لهذه النخب الحاكمة، بالقدر الذي هو مقلق لـ"إسرائيل".
في هذا السياق، لا حاجة لاستعراض أوجه التعاون الاستخباراتي مع "إسرائيل"، أو المساهمة اللصيقة لإعداد خطة ترامب لتصفية القضية الفلسطينية والإعلان عنها، أو الهجوم المكثف بالدعاية العكسية الرامية إلى إعادة صياغة الوعي العام العربي لقبول "إسرائيل" وشيطنة الفلسطينيين والتخلّي عن قضيتهم، أو البدء العملي في خطوات استراتيجية لتقريب "إسرائيل" من السعودية، أو جرّ دول أخرى للارتباط بـ"إسرائيل"، كما هو حال السودان.
ولمّا كان الأمر كذلك، بات تصعيد التحالف الإستراتيجي الوثيق، والمنعقد بالفعل، إلى صور تطبيع معلن وتبادل دبلوماسي، مسألة وقت، مهّد لوقتها يوسف العتيبة، سفير الإمارات في واشنطن، في مقالته في "يديعوت أحرنوت" الصهيونية، والتي دعا فيها لوقف مشروع الضمّ الإسرائيلي للضفّة الغربية مقابل تطبيع معلن وكامل بين دولته ودولة الاحتلال. وفي حين لا يُستبعد أن تكون القصّة قد حبكت لتغطية التطبيع ببطولة زائفة وإنجاز كاذب كهذا، فإنّ الإمارات كانت ستخشى، بالفعل، من مشروع الضمّ، بما من شأنه أن يتسبب في انفجار يصعّب من مهمات تحالفها مع "إسرائيل"، فالهدوء في فلسطين يخدم مشروع التحالف المشار إليه.
بهذا الاستعراض يتضح أن الاستعلان بالتحالف الإماراتي الإسرائيلي، أكبر من خدمة انتخابية لترامب، أو خدمة لنتنياهو لمساعدته في التخلّص من أزماته السياسية والقضائية، ولكن التوقيت الدقيق قد يرتبط بمثل هذه الخدمات، فضلا عن استعجال الإمارات في الاستناد لهذا التحالف، بعدما كبر عليها تمدّدها في المنطقة، ووصلت عدوانيتها تجاه تركيا حدّا لا تطيق تداعياته دون استناد إلى "إسرائيل"، وربما احتياج "إسرائيل" إلى قاعدة في الخليج قبالة إيران التي تُعزّز من وجودها في سوريا بالقرب من فلسطين المحتلّة.