لا أظنّ أن فلسطينياً، في الضفة وغزة تحديدًا، لم يجرب حظر التجول على مدى سنوات معايشته الاحتلال الصهيوني، وخصوصاً خلال سنوات الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وقد كانت المناطق الأكثر اشتعالاً بالمواجهات تخضع لحظر التجول المشدد المتواصل فترة طويلة، وتعاني نقصاً كبيراً في المواد التموينية، ولا تحظى بالانفراج إلا أياماً قليلة، يُعاد بعدها حظر التجول عقب تجدد المواجهات، أو بعد حدوث عملية ضد جيش الاحتلال.
كانت سياسة منع التجول تتيح للاحتلال أن يمارس تنكيله وعمليات تفتيشه داخل الأحياء والبيوت بيسر أكثر مما لو كانت هنالك حركة للناس في الشوارع، وكان منع التجول سياسة يراها الاحتلال عقابية، ويرجو أن يحقق منها ردعاً للمناطق التي تندلع فيها تظاهرات ضده أو تخرج منها عملية تستهدف قواته، وكان يعاقب مخالفي قرار حظر التجول بالاعتقال وأحياناً بإطلاق النار عليهم أو الضرب والتنكيل.
في تلك الأيام، كان كثير من الفلسطينيين يجتهدون في اجتراح وسائل لمواجهة منع التجول، وكانت هنالك مجموعات متخصصة في مراقبة مداخل أحياء المدن والقرى والمخيمات لتتيح لمجموعات أخرى أن تتجول وتنجز أعمالها الطارئة أو تتفقد وتساعد غيرها. كان في التحايل على منع التجول أو مجابهته معنى الإرادة والتحدي وعدم الاستسلام، بل كان هنالك من يخرجون لمواجهة جنود الاحتلال رغم هذا الحظر.
ولعل الثقافة الشعبية المتوارثة حول سياسة منع التجول بقيت عالقة في وعي قطاع كبير من الفلسطينيين، إلى درجة أن الامتثال للمنع ظل مقترناً في أذهان كثيرين بالقهر والرضوخ، حتى حين صار القرار صادراً عن جهات فلسطينية، والهدف منه هذه المرة حماية الناس لا عقابهم ولا إذلالهم.
اليوم، وفي زمن كورونا، لا نبالغ إن قلنا إن هنالك مناطق فلسطينية كثيرة، لا تمتثل لقرار لزوم المنازل، وخصوصاً في الضفة الغربية التي صدر فيها القرار منذ أكثر من أسبوع، وهناك من يرى أنه لا ضير في تجوله وممارسة نشاطاته الاجتماعية المختلفة من زيارات وجمعات عائلية وتجمهر، ما دام بعيداً عن أعين أفراد الأمن الذين قد يغرّمونه لقاء خروجه غير المبرر أو الاضطراري من منزله.
ومع أنه لا يبدو مألوفاً أن تُلزم جهة فلسطينية شعبها بسياسة كان ينتهج المحتل مثلها في إطار مواجهته، إلا أن الأمر اليوم مختلف تمامًا، وهو إجراء عالمي وليس محليًا، فمن كان يرى أن نجاحه بالخروج من منزله خلال منع الاحتلال التجول يعدّ تحدياً عليه أن يدرك الآن أن خروجه غير الاضطراري من منزله يعدّ مقامرة بصحته وصحة غيره، وسبباً في إحداث ثغرة جديدة للفيروس، الذي تتطلب مكافحته تقليل الاحتكاك بالناس قدر الإمكان، خصوصاً في ظل الإمكانيات الصحية المتواضعة للغاية في مستشفيات الضفة الغربية وغزة، فلو انتشر المرض –لا سمح الله- أضعاف ما هو عليه الآن، سينهار القطاع الصحي سريعًا.
النجاح في التحايل على حظر التجول هذه الأيام ليس بطولة ولا تحدّيا، بل هو مساهمة مباشرة في تصعيب جهود مكافحة الوباء واحتوائه، وكلما طال أمد انتشار الفيروس ستطول فترة الطوارئ وسيمدد حظر التجول، وتطول مدة تعطّل الناس عن مزاولة أعمالها.
النجاح في تخطي هذه المرحلة الحساسة يحتاج وعياً ومسؤولية على المستوى الفردي قبل أي شيء آخر، ويتطلب أن يتخلص كثير من الناس من نزوعهم للفوضى والتفلت، وأن يلزموا أنفسهم بمستوى عالٍ من الانضباط والوعي والحرص على المصلحة العامة، وفهم ضرورات تجنّب الاحتكاك بالناس أو التجمع، إلى جانب الوعي بجدوى وسائل الوقاية الصحية المختلفة، والتي ما يزال بعض الناس يرونها هوساً مبالغاً فيه!
للبطولة والتحدي ميدانهما، وللانضباط والالتزام ميدانهما أيضًا، والخلط بين الميدانين سيفاقم المشكلة ويعزز التفلت واللامبالاة، خصوصاً حين تتعدد مظاهر انتهاك قانون الطوارئ، كما حدث في بعض حفلات استقبال الأسرى المحررين، وكما يحدث يومياً في بعض المناطق التي ما تزال مستمرة في نشاطها الاجتماعي وتقاليد مناسباتها المختلفة.
في المقابل هنالك نماذج تستحق التقدير، لأنها سَنّت سنة شجاعة في الانضباط، كبعض المحررين من سجون الاحتلال الذين خرجوا من السجن إلى بيوتهم مباشرة، وأعلنوا اعتذارهم عن استقبال المهنئين مراعاةً للظرف العام، أو من ألمّت بهم حادثة وفاة، فاكتفوا بتلقي العزاء عن بعد. ومع أن تحلل البشر من عاداتهم الاجتماعية يظل ثقيلاً على أنفسهم، لكنّ تقديم المصلحة العامة على الرغبات الفردية المختلفة يعدّ من وسائل تربية المجتمعات ورفع حسّ المسؤولية لديها.