يشكل الدفاع عن المسجد الأقصى المبارك والأسرى الأردنيين في سجون الاحتلال الحالة الاستثنائية لسياق العلاقات الذي تبنيه الدولة الأردنية مع الكيان الصهيوني، فهي علاقات تسير بمسارٍ حميمٍ منذ عام 2013، ولم تكن حوادث قتل الشهداء الأردنيين، أو أسر المواطنين الأردنيين أو العدوان على الأقصى وفرض تغييرات في الوضع القائم فيه إلا "سحائب صيف" تتطلع الدولة الأردنية إلى تجاوزها والمضي في مسار تعزيز العلاقات مع الكيان الصهيوني باعتباره "الثابت الوحيد" في منطقة طحنتها رحى الثورات والثورات المضادة.
في هذا السياق يمكن رصد التطورات التالية أردنياً منذ ذلك التاريخ:
أولاً: في شهر 2-2013 وقعت الدولة الأردنية اتفاقية مع الكيان الصهيوني لاعتماد ميناء حيفا ميناءً بديلاً للاستيراد والتصدير عبر البحر المتوسط، بعد انقطاع التواصل مع ميناء اللاذقية السوري.
ثانياً: التوقيع الأولي على اتفاقية المنطقة الحرة الأردنية-الصهيونية المشتركة في 2013، وبدء تنفيذ أعمال البنية التحتية لها في شهر 4-2017 بما في ذلك جسر جديد فوق نهر الأردن لنقل البضائع والمنتجات بشكل حر.
ثالثاً: توقيع اتفاقية الغاز في شهر 9-2014 التي سيشتري الأردن بموجبها الغاز الإسرائيلي المسروق من أراضينا المحتلة على مدى 15 عاماً وبقيمة 10 مليار دولار مع ضمانة أمريكية للاتفاقية بحيث يمكن تحويل حصة الأردن من المساعدات للكيان الصهيوني في حال عدم التزام الأردن، وأعمال تنفيذ خط الغاز مستمرة اليوم في الشمال الأردني.
رابعاً: في 7-5-2019، وفي إطار "معالجتها" لقضية البطالة، وقعت الحكومة الأردنية اتفاقاً مع الكيان الصهيوني لزيادة العمالة الأردنية في فنادق "إيلات" أم الرشراش المحتلة.
خامساً: في 1-6-2014 نشرت في الجريدة الرسمية النسخة المعدلة من "قانون منع الإرهاب" في الأردن، والتي اعتبرت مقاومة الاحتلال الصهيوني عملاً إرهابياً يعاقب عليه القانون الأردني، واعتبرت تمويل مثل هذه الأعمال والتحريض عليها أعمالاً يمكن المعاقبة عليها بالحبس لمدة خمس سنوات.
تضاف إلى ذلك مسودة مشروع ناقل البحرين الذي يسعى الأردن لتنفيذه بشكل مشترك مع الكيان الصهيوني لنقل المياه من البحر الأحمر إلى البحر الميت مروراً بـ"إنعاش" منطقة وادي عربة، لكن الكيان الصهيوني لا يبدي تحمساً له، واتفاقية المناطق الحرة المؤهلة للتجارة الحرة مع الولايات المتحدة "QIZ" شريطة أن تتضمن نسبة محددة من مدخلات الإنتاج إسرائيلية المنشأ، والتي فعلها الأردن عام 1997.
من بديهيات تقييم الموقف السياسي أن العبرة أساساً بالأفعال، وعلى مستوى الفعل فالدولة الأردنية ماضية وبشكل مستمر لربط معظم "حلول" قضاياها المحلية بالبوابة الصهيونية، من المياه إلى الطاقة فالبطالة والاستيراد والتصدير...
فإذا كان هذا السياق العام للعلاقات، فما إمكانية قول لا في الأقصى؟ وما إمكانية الضغط الفعلي لإطلاق الأسرى؟ وما أفق استعادة حق الشهداء الأردنيين أو حتى "المعاتبة" على قتلهم؟ ويمسي السؤال هنا جدياً عن إمكانية تجاوز التصريح حول اللاءات في ما يتعلق بالموقف من الأقصى والوطن البديل إلى تحرك عملي ملموس يحمي الدور الأردني في الأقصى والقدس، ويمنع فرضَ تحول بنيوي على الدولة الأردنية باعتبارها باتت هي الدولة الفلسطينية وفق الرؤية الليكودية التي يتبناها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وهي رؤية مرشحة لأن تجد لها تأييداً في أوساط نخبة فلسطينية وأردنية أسست مصالح اقتصادية متجذرة وباتت تتطلع إلى تلك اللحظة.
هناك تقصير شعبي فاضح في تمرير كل هذه الخطوات واحدة بعد الأخرى بمعارضة محدودة أو دونما اكتراث بالمرة في معظمها، وما نراه اليوم من موقف عاجز تجاه قضايا الأقصى والأسرى ليس إلا الحصاد المر لهذا التوجه الآخذ بالتعزز، والذي لم يشهد حتى الآن سوى استثناءً واحداً هو الإعلان عن عدم تجديد ملحق تأجير أراضي الباقورة والغمر، والذي ما يزال مصيره النهائي ينتظر الأيام المقبلة كي يتضح.
منذ 2015 والدولة الأردنية تقف أمام استحالة جمع المتناقضين، لكنها ماضية في المحاولة؛ ففي 2015 انفجرت انتفاضة السكاكين لمنع التقسيم الزماني فيما أعلن وزير الخارجية الأمريكي جون كيري من عمان تفاهماتٍ فرض فيها تراجعاً على الدور الأردني في الأقصى، ثم جاءت هبة باب الأسباط في شهر 7-2017 والتي قتل فيها شهيدان أردنيان على أرض السفارة الصهيونية في عمان ليلوذ جميع مسؤولو الدولة بالصمت حتى انتهاء الهبة بتراجع الكيان الصهيوني أمام الفعل الشعبي، وتكررت التجربة في هبة باب الرحمة كذلك التي حاول الاحتلال فيها البدء بالتقسيم المكاني ففرضت الجماهير المقدسية تحويله إلى مصلى.
وها هو الكيان الصهيوني اليوم في موسم الأعياد اليهودية يفرغ دور حراس المسجد الأقصى ويمنعهم من الاقتراب من المقتحمين الصهاينة، فيم شرطته تحمي أداء الطقوس العلنية الجماعية خلال الاقتحامات كما وُثق بالصوت والصورة عشرات المرات، وفي الوقت عينه يرفض الكيان الصهيوني الإفراج عن أسيرين أردنيين حولهما الشهر الماضي إلى الاعتقال الإداري هما هبة اللبدي وعبد الرحمن مرعي.
فإلى متى سيستمر هذا النهج، وما الجدوى منه، وإلى متى سيستمر الصمت والغياب الشعبي عنه؟