بعد احتلال شرقي القدس عام 1967، مأخوذة بنشوة النصر وبقرارات الضم، وجهت الحكومة الصهيونية رسائل إلى مدير الأوقاف في ذلك الحين الشيخ حسن طهبوب رحمه الله بأن يضع كل وثائق مديريته بتصرف وزارة الأديان الصهيونية، وأبلغت مفتي القدس الشيخ سعيد صبري رحمه الله بأن محتوى خطبة الجمعة يجب أن يخضع لرقابة وزارة الأديان وأن يحصل على موافقتها قبل الخطبة.
في ذلك الوقت دعا الرجلان ومعهما قاضي قضاة القدس الشيخ عبد الحميد السائح رحمه الله إلى تشكيل الهيئة الإسلامية العليا من المفتين والقضاة ومدراء الأوقاف والشخصيات الإسلامية لتشكل مرجعية شعبية مستقلة تتولى إدارة المقدسات الإسلامية في القدس وتخوض المواجهة لحماية هويتها.
أدركت الحكومة الصهيونية خطورة هذا الجسم الناشئ الذي قد يستعيد تجربة المجلس الإسلامي الأعلى الذي كان يقوده مفتي القدس الحاج أمين الحسيني رحمه الله، فبادروا فوراً إلى تخفيض لهجة المواجهة وسحب طلباتهم تلك؛ ليبقى الوضع في الأقصى على ما كان عليه لكن تحت مظلة الهيئة الإسلامية العليا التي سرعان ما عمل الاحتلال على ضربها وإبعاد قيادتها إلى الأردن.
أدرك المحتل في وقت مبكر أن موازين القوى لا تسمح له بفرض السيطرة الكاملة على الأقصى، وأن وجوده في القدس في ذلك الوقت وجود هش لا يحظى بالقبول الدولي التام، وأن افتعال أية مواجهة مبكرة من شأنه أن يقوض الاحتلال المُستجد للمركز التاريخي للمدينة، وأمام هذا الأمر الواقع المفروض عليه، تبنى الاحتلال تجاه الأقصى استراتيجية التضييق في كل المساحات الممكنة، وتغيير معالم محيطه وإيجاد موطئ قدم صهيوني فيه، وهي السياسة التي بقيت متبعة حتى اتفاق أوسلو عام 1993 إذ برزت إلى الواجهة أجندة الاستحواذ على تسوية المسجد، ومن بعدها أجندة تقسيم الأقصى التي نواجهها اليوم.
أحد وسائل التضييق على الأقصى كانت منع المصلين من الاعتكاف ليلاً فيه، ومنع تواجد أحد في الأقصى ليلاً باستثناء عدد قليل من الحراس، أي أن الأقصى ليلاً يقع تحت السيطرة الأمنية الصهيونية التامة بوجود الشرطة على أبوابه، ولاحقاً بوجودها في داخله بعد أن اغتصبت الشرطة الصهيونية الخلوة الجنبلاطية في صحن الصخرة وتحيلها مركزاً لها في داخل المسجد.
استمرّ هذا المنع للاعتكاف باستثناء ليلة 27 رمضان فقط حتى تسعينات القرن الماضي، فمع انتقال الأقصى ليصبح في قلب المواجهة، ومع تصاعد أجندة التهويد مع اليمين الصهيوني وتصاعد الحركات الإسلامية في فلسطين؛ بدأ الشباب الفلسطيني يعتكف خلال ليالي العشر الأواخر من رمضان، فتمكنوا من فرض واقع جديد زاد مدة الاعتكاف.
بحلول عام 2013 ومع بدء محاولة الشرطة الصهيونية فرض التقسيم الزماني التام بإغلاق الأقصى أمام المسلمين في الأعياد اليهودية، كان الاعتكاف وسيلة الشباب المقدسي في استباق الإغلاق الصهيوني، فكانوا يدخلون الأقصى من صلاة المغرب في اليوم السابق للإغلاق ويبقون فيه حتى اليوم التالي لمواجهة المقتحمين الصهاينة، فتفشل الشرطة الصهيونية في تحقيق ما أرادت من إخلاءٍ للأقصى لصالح مستوطنيها المتطرفين. زاد هذا من حدة معاداة الشرطة الصهيونية للاعتكاف، فهذه الشعيرة الدينية الأصيلة في الأقصى باتت وسيلة تُفشل مخطط تقسيمه، وحاولت شرطة الاحتلال استثمار الجو الأمني المشدد الذي صاحب حرب 2014 في غزة لتعيد فرض حظرٍ كامل على الاعتكاف في العشر الأواخر باستثناء ليلة القدر، أي أن تعيد الأمور لما كانت عليه في ثمانينات القرن الماضي، فجاء الجواب من الجماهير الفلسطينية بمواجهات حامية في ليلة 27 رمضان شملت كل أنحاء القدس، وبإحراق مركز الشرطة المغتصب في الخلوة الجنبلاطية في صحن الصخرة.
مع استمرار محاولات فرض التقسيم الزماني في شهر 9-2014 وشهر 9-2015 استمر الاعتكاف في كونه وسيلة الشباب المركزية في إفشال الإغلاق التام وصولاً إلى انطلاق انتفاضة السكاكين على أثر محاولة التقسيم تلك. أدركت شرطة الاحتلال بالطريقة الصعبة عدم قدرتها على منع الاعتكاف، وباتت تركز على مدى الأعوام الثلاثة الماضية 2016-2018 على حصره في العشر الأواخر، وفي ليالي الجمعة إن اقتضى الأمر.
تتبُّع مسيرة الاعتكاف وسياسة الاحتلال في منعه والفعل المقدسي والفلسطيني لاستعادته يوصل إلى نتيجتين رئيستين: أن الاعتكاف شعيرة حاول الاحتلال التخلص منها لكن الرباط الشعبي تمكن من استعادتها ولو بشكل خجول، وأن الاعتكاف كان وسيلة أساسية في منع تفريغ المسجد من المصلين، في المحصلة انتقل المحتل من محاولة منع الاعتكاف إلى منع تمدده ليشمل ليالي أكثر خلال العام.
من الناحية الإسلامية البحتة فالاعتكاف هو أحد أهم ما يميز الأقصى عن سائر المساجد، فإنما تشد الرحال إليه من البلاد البعيدة ليعتكف فيه وليغتنم العابدون أوقات الليل والنهار تقرباً إلى ربهم، وكما أن المسجد الحرام والمسجد النبوي يفتحان اليوم أمام المتعبدين في كل ليالي رمضان، فإن شقيقهما الأقصى يشاركهما تلك الميزة الفريدة، والتوجيه النبوي حوله خصه بالقول "لنعم المصلى هو، ايتوه فصلوا فيه، فإن لم تأتوه فابعثوا بزيتٍ يُسرج في قناديله"، والتسليم بأن هذه الشعيرة تخضع للتحكم الصهيوني هو عملياً تسليمٌ ضمني بالتقسيم الزماني له، وإذا كان تمكن من منعها طوال السنوات الماضية فلماذا يسمح له بالاستمرار في ذلك؟ أليست الإرادة التي فككت البوابات الإلكترونية وفتحت مصلى باب الرحمة قادرة على فتح باب الاعتكاف في رمضان وفي كل مواسم العبادة؟ تبقى معضلة مركزية لم نتناولها، وهي أن الأيام الماضية شهدت مشاركة بعض حراس الأقصى في عملية تفريغه من المصلين بأمرٍ من إدارة الأوقاف.
قد يكون الإنسان أحياناً أسير ما يألف، فكون الأقصى مغلق ليلاً أمام محبيه وقاصديه منذ 1967 فهذا وضع شاذ وعدوان مسكوت عنه، وعمر هذا العدوان لا يمكن أن يضفي عليه المشروعية، ويجب أن يبقى إغلاق الأقصى أمام المعتكفين أمراً مرفوضاً إسلامياً، ولا بد لدائرة الأوقاف وللحكومة الأردنية أن ترفضه.
وما دمنا نرفض عدوان المحتل فلماذا نتعاون معه حين يحاول تنفيذه؟! إن كانت شرطة المحتل تريد أن تفرغ الأقصى من المصلين فلتدخل ولتفعل ذلك بيدها، ولتتحمل ما سيترتب على ذلك من ثمن؛ أما حراس الأقصى فهم درعه الحامي ومهمتهم التي أفنوا لأجلها الأعمار ودفعوا لأجلها التضحيات هي حماية هويته الإسلامية والتصدي لأي عدوانٍ عليها، ومساهمتهم في هبة باب الرحمة كانت مشهودة، حتى تضامنت معهم عائلات القدس وحمائلها ونزلت بأبنائها لفتح مصلى باب الرحمة لتكون إلى جانبهم، ولا نملك خياراً إلا أن نعزز هذه اللُّحمة ونحافظ عليها، وأن نتجنب كل اجتهادٍ أو فعلٍ من شأنه أن يضع حراس الأقصى في وجه رواده ومحبيه ومعتكفيه.