قراءة السلوك السياسي للاحتلال في القدس تقول إنه يعمل على جبهتين لترجمة قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمةً له: الأولى هي تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى المبارك، والثانية هي تغيير حدود القدس بدءاً من تهجير الخان الأحمر.
شكّل قرار ترامب ضد القدس غطاءً معنوياً لاحتلال المدينة، والقرارات المعنوية بطبيعتها تحتاج إلى ترجمةٍ لاحقةٍ على الأرض كي تكون لها قيمة، وهذا ما بدا أن الأمريكان والصهاينة يدركونه جيداً، فسارعت الولايات المتحدة إلى نقل السفارة إلى مقر قنصليتها في القدس رغم عدم أهلية هذا المقر لاستقبال طاقم السفارة، بل إن جلّ ما قامت به هو وضع يافطة مكان أخرى، لكن العين كانت على مسابقة الزمن لتحويل القرار المعنوي إلى واقعٍ مادّي ملموس.
في الأقصى لم تختلف الصورة، ومستوى العدوان وسرعته ومبادرة الحكومة الصهيونية إليه شهدت تغييراً كبيراً بعد القرار، من قضم مقبرة الرحمة الملاصقة للأقصى، ووضع نقطة مراقبة جديدة في المسجد فوق باب الرحمة داخل الأقصى، ومنع المصلين من دخول الجهة الشرقية للأقصى والصلاة فيها واعتقالهم على خلفية ذلك في إعلان واضح عن نوايا التقسيم المكاني، وصولاً إلى التدخل في إعمار السور الغربي للمسجد وإقرار مخطط منصة الصلاة المرتفعة الجديدة التي ستكون توسعة لساحة البراق ملاصقة لباب المغاربة الداخل للمسجد.
الاتجاه المهم الثاني كان تغيير حدود القدس، فنتنياهو يريد استثمار قرار ترامب إلى أقصى حدوده، فالقرار لم يحدد الحدود الجغرافية للاعتراف، وبما أنه يعني اعترافاً أمريكياً بسيادةٍ إسرائيلية على القدس، فإن مبدأ السيادة نفسه يقضي أن الحدود الإدارية والداخلية هي شأن للدولة تقرره كيف تشاء، وتحت هذا الباب سيعمل الكيان الصهيوني على ضم أوسع مساحة ممكنة من أراضي الضفة المحتلة إلى مدينة القدس لتصل إلى مساحة تقارب 300 كم2 –مكان 126 كم2 حالياً- فتصبح تلقائيًا محل اعترافٍ أمريكي بها.
تحضيراً لذلك جاء إقرار الكنيست في شهر شباط الماضي لقانون يسمح بتطبيق القوانين الإسرائيلية على المناطق ج –أو المناطق سي- من الضفة المحتلة بحسب تصنيفات أوسلو، وبتفويض الحكومة بتعديل حدود مدينة القدس. بعد أقل من شهر كان الخان الأحمر شرق القدس يعود إلى الواجهة، فالجيش الصهيوني يعمل على إخلاء بدو شرق القدس بالكامل –وعددهم يقدّر بـ5,000 مواطن- تمهيداً لضم مستوطنة معاليه أدوميم ومحيطها، وصولاً إلى مداهمة تجمع المدرسة في الخان الأحمر والتنكيل بأهله في شهر تموز، وقرار المحكمة الصهيونية العليا الأخير في شهر أيلول والذي يفوض الجيش بإجلاء أهالي الخان الأحمر وتنفيذ خطته بإعادة توطينهم في معسكرات تركيز صغيرة في العيزرية شرق القدس، أو في النويعمة في وادي الأردن.
تعديل حدود القدس هاجس صهيوني قديم، فوقائع حرب 1948 جعلت المركز اليهودي غربي المدينة مطوّقاً بالقرى والبلدات العربية شمالاً وجنوباً وشرقاً، فكل العمق الجغرافي المحيط بها عربي، ومنذ عام 1967 والاستيطان حول القدس يحاول فك الطوق الجغرافي حول هذا المركز من الجهات الثلاث، وجاء الجدار مع بداية بنائه عام 2002 ليجمع المستوطنات المتقاربة في ثلاثة كتل: واحدة في الشمال وتحمل اسم جفعون، وواحدة في الشرق وتحمل اسم أدوميم، والثالثة في الجنوب وتحمل اسم عتصيون. اكتمل بناء الجدار تقريباً في اتجاهات الشمال والجنوب، وبقي العائق الأساس في الشرق في كتلة أدوميم بسبب الاعتراض الأمريكي المستمر عليها لكونه تنهي تواصل شمال الضفة بجنوبها بشكلٍ تام، وتنهي أفق وهم حل الدولتين، الذي تراه الولايات المتحدة ضرورياً لمستقبل الدولة الصهيونية، فهو المخدر الأساس المستخدم في منع تفجر مقاومة فلسطينية شاملة.
اليوم ومع ترامب تُعول الحكومة الصهيونية على إكمال الجدار حول معاليه أدوميم، وضمها للقدس وإضفاء المشروعية عليها بضربة واحدة. الخان الأحمر إذن ليس مجرد قضية منع تهجير قسري –على أهمية ذلك- بل هو من الناحية السياسية جبهة معركة كبرى عنوانها تعديل حدود القدس وترجمة قرار ترامب.
ما ينبغي التنبه إليه فلسطينياً أن تعديل حدود القدس لا يتضمن ضم الكتل الثلاث فقط، بل يتضمن أيضاً إقرار فصل أحياء ثلاثة مقدسية مكتظة بالمواطنين العرب أسّس الجدار لسلخها عن القدس، هي كفر عقب شمالاً ومخيم شعفاط وعناتا الجديدة شرقاً، وعدد سكان الأحياء الثلاثة يقدر بـ 55,000 مقدسي. إن خوض معركة الخان الأحمر هو المقدمة الضرورية لمنع وصول السكين إلى رقبة تلك الأحياء، وخوض معركة الآلاف الخمسة من أهل الخان الأحمر هو مصلحة حيوية مباشرة لأهالي كفر عقب ومخيم شعفاط وعناتا، ولكل المقدسيين والفلسطينيين، لأن ترك أهل الخان الأحمر لمصيرهم يعني أن الخطوة التالية هي فصل تلك الأحياء وسحب بطاقات الإقامة الزرقاء من أهلها ومنعهم من دخول القدس.
في مواجهة الاحتلال ليس هناك خلاص فردي، وحماية حقك كمقدسي في كفر عقب ومخيم شعفاط وعناتا وفي سائر القدس يمرُّ بخوض معركة الخان الأحمر والوقوف إلى جانب أهلها، وحماية القدس كثابتٍ من ثوابت الحق الفلسطيني يعني أن نقف جميعاً فلسطينيين وعرباً ومسلمين إلى جانب أهل الخان الأحمر، وأن تنطلق لحمايته مقاومة شعبية حقيقية تحشد أعداداً تتناسب مع اسمها في الاعتصامات والمسيرات، وأن تمد أهله بأسباب الصمود لإعادة بناء كل ما يهدمه الاحتلال على أرضهم من منشآت، حتى لا نقول في يومٍ قريب: أُكلنا يوم أُكل الخان الأحمر.