بعد اقتلاع الأكثرية العربية الفلسطينية من وطنها الأصلي فلسطين في العام 1947 / 1948 لم نُعد مجتمعًا فلسطينياً واحدًا يُقيم فوق أرضه بل أصبحنا مجتمعات فلسطينية كثيرة وتجمعات شعبية مُتناثرة ومُتباعدة ومَعزولة داخل وخارج فلسطين المحتلة لا تربطها جسور مادية محددة أو تحميها صلات مؤسساتية وسياسية واقتصادية، فمخيمات اللاجئين الفلسطينيين التي تجاوزت 60 مُخيماً سيجري استهدافها تِباعاً وتدمير وإزالة بعضها، مرّة بالقنابل والصواريخ والمجازر الجماعيّة ومرّة بالحصار والخنق الإقتصادي والإجتماعي فيما يتواصل جلدها يوميًا بسياط القوانين العنصرية وتهديدها بمشاريع التهجير والشطب والإلغاء والتوطين.
يجب أن نعترف أيضاً أن أحزمة البؤس الفلسطينية الممتدة من " النقب " إلى " جباليا " و" البقعة " و"اليرموك" وصولاً إلى المهاجر البعيدة هي أحزمة شعبية تقاتل وحدها تقريبًا وفي جزر ومعازل يتملكها شعور عارم بالخيبة والغضب المكتوم وبأنها مخدوعة ومتروكة حتى الرَمَق الأخير.
وفي الوقت الذي تعيش فيه الأكثرية الشعبية الفلسطينية حالة غير مسبوقة من العُزلة والتهميش والإفقار، تتربع طبقة فلسطينيةـ طبقة الأقلية الفلسطينية العاجزةـ التي لا تتجاوز بضعة مئات من كبار الملاك والرأسماليين.
على ثروة هائلة من الرساميل وتملك مليارات الدولارات في البنوك العربية والأجنبية، تعيش الحياة المخملية الآمنة وتسكن القصور وتكدّس الربح والثروة وتؤمن مصالحها عبر التعاقد من الباطن مع الكيان الصهيوني والنظام العربي الرسمي، ترسل أولادها إلى الجامعات والمعاهد المشهورة في الولايات المتحدة وأوروبا وبريطانيا وغيرها. ولا تدفع بالمقابل أي ثمن أو ضريبة في مسيرة التحرر الوطني، بل أنها أصبحت اليوم تسيطر على كل المؤسسات الفلسطينية وتقرر بالنيابة عن الأكثرية الشعبية البوصلة والطريق والحل أيضاً !.
وكلما اشتد الصراع الطبقي (الانقسام كما يسميه البعض!) بين الأقلية الفلسطينية المسيطرة وبين الأكثربة الشعبية المسحوقة حاولت الأولى حل مأزقها الذّاتي وأزماتها الإقتصادية والسياسية على حساب الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، تعتدي على حق العودة فتجعله " حلٌ متفق عليه لمشكلة اللاجئين " وتنتقص من حقوق الشهداء والأسرى والجرحى وتمد يدها الناهبة الى جيوب العمال والفقراء والموظفين البسطاء كما يحدث كل يوم في قطاع غزة المحاصر فضلا ًعن نهب المال العام والاعتداء على المؤسسات والأملاك الوطنية ، وهكذا تريد الأقلية الفلسطينية المهزومة امام الإحتلال أن تأكل حقوق الأكثرية الشعبية المناضلة وتبلع ما تبقى لها من حقوق.
اليوم، تجد " طبقة أوسلو " وهي طفيليات الكومبرادور الجديد والتابع، تجد صعوبة مُتزايدة في خداع الجماهير الشعبية الفلسطينية واقناعها ـ بالقوة أو بالدجل السياسي ـ ـبما يُسمى " الدولة الفلسطينية " الوهمية، مشروع البرجوازية الفلسطينية. هذه المحاولات التي تأتي تحت يافطات ومسميات لا حصر لها، صارت محكومة بالفشل الحتمي أمام نتائج التجربة المادية المعاشة للجماهير الفلسطينية خصوصاً مع ما يُسمى" عملية ومسيرة التسوية والسلام "، فالدولة الفلسطينية هي الخديعة الكبرى التي تكشفها حقائق الواقع المادي أمام الجماهير وتعريها معارك الأسرى في السجون وكلما تواصل الحصار على قطاع غزة ، بل تكشفها جرّافات العدّو الصهيوني حين تهدم البيوت الفلسطينية وتبني المستعمرات الصهيونية وتخلق الأسباب والحقائق التي تنزع القناع عن صنم " الدولة الفلسطينية " الوهمية وعجز طبقة الأقلية الملحقة باقتصاد وكيان العدو !
إن الأكثرية الشعبّية الفلسطينية المعّذبة والمطعونة في المنافي تعيش هي الأخرى واقع صعب ومركب. لقد أصيبت بصدمات كثيرة وخيبات مُتكررة فخسرت كل شئ، بما في ذلك موقعها الذي كان يوماً في " الثورة " و" المنظمة " أي خسرت دورها في " المشروع الوطني الفلسطيني " لصالح طبقة مهزومة وتابعة فتراجع هدف العودة والتحرير أمام تقدم هدف " الدولة الفلسطينية " الهدف الذي وصفه الأديب الشهيد غسان كنفاني "الحل التصفوي للثورة وللقضية".
لقد شيّدت جماهير المخيمات الفلسطينية في الشتات، بسواعدها ونضالها ودمائها على مدار سنوات طويلة أسس ومداميك منظمة التحرير وأطلقت الثورة الفلسطينية في منتصف الستينات بعد عشرين عاماً من التشرد، لكنها اليوم تجد نفسها متروكة بلا سلاح وبلا جدار يسند ظهرها، تجلس وحدها على قارعة الطريق في العرّاء.
غير أن هذه الطبقات الشعبية الفلسطنيية المناضلة والكادحة في فلسطين المحتلة والشتات هي وحدها الطبقات المنتجة، العمال والفلاحين والصيادين والحرفيين (الصنايعية) وأصحاب الورش الصغيرة والمتوسطة والموظفين المعدمين والطلبة والمعلمين، فضلاً عن جيش المعّطلين عن العمل. فهذه الفئات والشرائح التي تكدح وتعمل وتناضل كل يوم هي التي حملت وتحمل على ظهرها أعباء الانتفاضة والعمل الفدائي المسلح.
وهذه الطبقات الشعبية هي الخصم التاريخي، السياسي والطبقي، لسكان القصور الفلسطينية الفارهة وللكيان الصهيوني في آنٍ واحدٍ، وستظل الجماهير الشعبية الفلسطينية في مخيمات اللاجئين على نحو خاص، ستظل صاحبة المصلحة الأساسية في حركة التغيير والتقدم وفي إنجاز مشروعها الوطني التحرري وجوهره العودة والتحرير.
هذه الأكثرية الشعبية في الواقع هي القوة الحاسمة في حركة الثورة والتجديد، الطبقات المؤتمنة على الحقوق الوطنية، ومنها تتخرج كتائب وطليعة الجموع المتحفزة الجاهزة دائمًا للتضحية والبذل والعطاء في سبيل استرداد وطنها السليب، لكنها بنفس القدر، قوة كامنة ومعّطلة وصامتة، محرومة اليوم من ممارسة أبسط حقوقها الطبيعية السياسية والوطنية والإنسانية.
هذه الكتلة الفلسطينية الشعبية الكبيرة تشكل أكثر من 99 بالمائة من عموم الشعب الفلسطيني، أي الأكثرية الشعبية التي لا تفتش عن" الحل " بقدر ما تفتش عن النصر، ولا تبحث عن الدولة بقدر ما تناضل من أجل تحقيق العودة واستعادة الوطن والحقوق واسترداد الأملاك والثروات الفلسطينية المنهوبة.. يصبح السؤال الطبيعي اذن: كيف لطبقات فلسطينية فقيرة وفئات اجتماعية مهمشة ومغيبة إلى حدود الاغتراب والغياب الكامل أن تستعيد صوتها ودورها وموقعها في الصراع؟
إن تحقيق هذا الهدف الوطني يشترط أن تعي الأكثرية الشعبية الفلسطينية دورها التاريخي في الصراع، لأن تحقيق هذا الهدف الوطني لا يعني هزيمة مشروع التصفية الصهيوني الأمريكي الرجعي ودحر مشروع الأقلية الفلسطينية والدولة الوهمية وحسب، بل سيعني أيضاً، الانتقال من زمن السلطة إلى زمن الثورة وحركة التغيير الشاملة، هذه المرة بقيادة الطبقات الشعبية المفقرة. فلم يحدث ولا مرة واحدة في تاريخ شعبنا المعاصر أن استطاعت هذه الطبقات احتلال موقع القيادة المقررة في حركة التحرر الوطني الفلسطينية، كلما حاولت تحقيق هذا الهدف جرى اعاقتها وكبح جماحها بالقوة والسلاح والمجازر.
وهنا بالضبط يكمن " مربط الفرس “كما يقال، هنا يكمن جوهر التناقض الدّاخلي الفلسطيني، في الصراع الطبقي بين الأقلية والأكثرية، معادلة فلسطينية واضحة: من يريد ويقدر لا قرار معه... ومن يقود ويغتصب القرار السياسي لا يريد ولا يستطيع!