القدس المحتلة – خاص قدس الإخبارية: حافي القدمين عاد إلى المنزل، يحمل فردة من حذائه الجديد ويواصل القهقهة بصوت مرتفع، فيما تقف هنا غاضبة ويديها التصقتا بوجهها: "وين البوت الجديد يا باسل؟".
المشهد الأول
على جدار الضم والتوسع الذي يحاذي قرية حزما شرق القدس، تسلق باسل ملاحقا جنود الاحتلال بحجارته خلال مواجهات اندلعت في القرية، وبينما باسل يتمركز على الجدار الذي يرتفع أمتاراً، أسرع باتجاهه أحد الجنود حتى مسك قدمه وبدأ بسحبه إلى الأسفل، وباسل يواصل محاولاته بالنجاة، تاركاً للجندي فردة من حذائه فقط.
من قرية حزما إلى منزله في قرية عناتا، عاد باسل حافي القدمين، "انت زعلانة على البوت الجديد؟ وحياة عيونك بكرة بجبلك إياه" قال باسل لوالدته التي اعتقدت أنه يمازحها، ليدخل المنزل في اليوم الثاني وقد خبأ مفاجأة خلف ظهره، فبرفقة أصحابه الذين وقفوا يراقبون المكان، تسلق الجدار مجدداً، عثر على حذائه الذي سحبه الجندي، وعاد مفتخراً بما حمل، وهو يردد مقهقاً: "يكفي أنه سقط على وجه الجندي".
حاضراً كان باسل إبراهيم (29عاما) في ميادين المواجهة يلاحق جنود الاحتلال بالمولوتوف والحجارة، يتقدم الشبان ويشجعهم على الاستمرار، ليبدأ الاحتلال منذ عام 2009 بمطاردته معتبره محرك المواجهات في بلدة عناتا.
باسل لم يهرب يوما من جنود الاحتلال فهو دائما يخوض المواجهة المباشرة، ولكنه اتخذ قراراً ألا يكون صيدا سهلاً لهم، ولا يجلس ينتظرهم مستسلما، نضاله المستمر لن ينتهي باعتقاله وزجه في سجون الاحتلال، نضاله سيستمر حتى يشاء الله منحه الشهادة، وهو الإيمان المطلق الذي عاش عليه منذ بدء ملاحقته.
المشهد الثاني
على حافة الطابق الثاني، وقف باسل مترددا ليأتي الهمس من الخلف مشجعا: "باسل سم بالله واقفز"، وما زال الطرق يشتد على باب المنزل ينبأ بزوار غير مرغوبين.
"وين باسل" يصرخ أحد جنود الاحتلال المقتحمين لمنزل باسل إبراهيم في بلدة عناتا، وقبل أن ترد العائلة، يجيب جندي آخر من الخلف، "إنه هناك"، يعلنون الاستنفار ويتحركون بالاتجاه الآخر ملاحقين باسل الذي يسعونه له منذ وقت طويل.
كانت المواجهات بلغت أوجها في ذاك اليوم، ووسط دفع الاحتلال تعزيزات عسكرية كبيرة إلى البلدة، اتخذ الشبان قرار التراجع والانسحاب، وهو ما قرره باسل أيضا الذي تمكن من الوصول لمنزله الذي يبعد أمتاراً عن ميدان المواجهة، "خلع ملابسه خلال صعوده درج المنزل، فيما أحضرت له سريعا ملابس مختلفة، خوفا من ملاحقته" تروي هنا إبراهيم والدة باسل لـ قدس الإخبارية.
ركضت هنا وابنتها كاميليا باحثتان عنه، "باسل.. يا باسل" تنادي الأخت الخائفة، وشقيقها لا يرد، تفتش كل الزوايا، تصعد نحو خزانات الماء تتفقدها، ولا تجده، تروي كاميليا، "رأيت جارنا يقف مصدوما يراقبنا.. سألته إذا رأى باسل، فقال لنا أن باسل الذي وصفه "بالقرد" قفز حافي القدمين ولاحق من الخلف الجنود بالحجارة".
المشهد الثالث
منهكاً عاد باسل من المواجهات، يضحك كعادته مفتخراً بما صنع ورفاقه اليوم، إذ اشتدت المواجهات في عناتا وسدد الشبان حجارتهم وزجاجاتهم على جنود الاحتلال، "كنت أريد اليوم أن أحمل الجندي على كتفي وأحضره للمنزل" يقول باسل لوالدته محدثها عن المسافة الفاصلة بينه وبين جنود الاحتلال التي كانت لا تتعدا أمتاراً قليلة، ويتابع ممازحاً، "بوعدك يما المرة الجاي سأحضر معي جندياً للمنزل"، وترد الوالدة: "الله يرضى عليك يما.. هيك بدي اياك".
كل يوم كان فيه باسل يلتحق بالمواجهات وخاصة أيام الجمعة، كان يودع والدته ويوصيها، "لا تنادي، لا تصرخي، لا تبكي.. أنا اليوم بدي استشهد"، تقول هنا: "لم يكن باسل يعرف الخوف، عندما يصاب أحد الشبان.. باسل كان يحمله وينقله بمركبته للمركز الصحي.. حتى صار لقبه في عناتا "الإسعاف"، فيما كان يناديه الشباب بـ"الزنبرك" لسرعة تحركه وتنقله".
المشهد الرابع
التاسع من تشرين ثاني 2016، وبعد فشل الاحتلال من اعتقال باسل خلال العامين الماضيين، اعتقلته وحدة مستعربين تنكرت بملابس عمال فلسطينيين، تتبعته من مكان عمله حتى وصوله منزله.
ففي الساعة السابعة والنصف صباحاً، وبعد دخول باسل شقته عائداً من مناوبة مسائية في عمله، وقفت والدته على نافذة منزلهم وقد أثارت شكوكها مركبة تحمل مجموعة من العمال وأدوات البناء قرب المنزل، وما إن توجهت لاستطلاع الأمر، حتى شاهدت العمال يحيطون باسل ويبرحونه ضرباً داخل شقته قبل أن يقيدوه، لتكتشف العائلة أن هؤلاء ليسوا بعمال وإنما وحدة مستعربين.
تروي والدة باسل، "كانوا يضربونه بمكان إصابته، وكلما صرخت بهم وقلت لهم أنه مصاب يكرر أحدهم: نعرف، ثم يواصل الضرب".
وبينما الوالدة تحاول الدفاع عن ابنها، اقترب أحد عناصر وحدة المستعربين منها وقد وضع المسدس بجبينها، ثم أخرج لها إحدى الأوراق من جيبه، وقال "لدينا قرار بتصفية باسل، ولن نتردد من ذلك أمامك الآن إذا تجمهر الشباب حول المنزل".
بحثاً عن باسل، داهمت قوات الاحتلال منزله وعائلته 16 مرة، كانت تخضع المنزل خلالها للتفتيش الدقيق والعبث بمحتوياته وتدميرها، فيما كانت تترك لباسل أوامر اعتقال واستدعاء، تقول كاميليا شقيقته: "كان ضباط الاحتلال يهاتفونه مهددين ويطالبونه بتسليم نفسه، ويدَّعون أنهم يعرفون أماكن وجوده.. نحن كنا خائفين أن يتم تصفيته داخل السجن، فيما لم يكن باسل مكترثا بكل التهديدات التي تلقاها ورفض الاستسلام".
في إحدى المرات التي تذكرها كاميليا وتصفها بـ"مثل الأفلام"، اقتحمت قوات الاحتلال منزل عائلة إبراهيم، كان باسل نائما وحده في المنزل، ليستيقظ على صوت همس الجنود وهم يفتحون باب المنزل بهدوء، ثم يصعدون الدرج، في تلك الأثناء صعد باسل بحذر إلى سطح المنزل، حيث تأكد أن المنزل غير محاصر، والقوة التي اقتحمت هي قوة راجلة.
وبينما الجنود ينتشرون داخل المنزل، خرج باسل على أطرف أصابعه، "اتصل وكان يضحك بصوت مرتفع، وقال لي اذهبي رتبي المنزل وأغلقيه لقد اقتحموه وأنا هربت"، تقول كاميليا.
سبع مرات اعتقلت قوات الاحتلال باسل على فترات متفاوتة، آخرها بعد مطاردة استمرت عامين، قضى خلالها حكما بالسجن عام وثلاثة شهور، وما إن أنهى حكمه حتى تم تحويله للاعتقال الإداري ليقضي ستة شهور إضافية، وبعد أشهر من انتزاع حريته، واصل الاحتلال الاتصال عليه واستدعائه للتحقيق وتهديده، فيما استعرض المحقق أمامه مجموعة صور التقطت له، في إشارة أنه تحت مراقبة الاحتلال، وفي نهاية التحقيق، ربت على كتف باسل، قائلاً: "اليوم اطلعت على أجريك.. بس بكرة لا".
المشهد ما قبل الأخير..
لوحت هنا لنجلها باسل وهي تقف على سطح المنزل، والمواجهات مع قوات الاحتلال تشتد قرب الجدار المجاور للمنزل، "ارجع يما يرضى عليك"، يرد باسل، "حاضر يما حضريلي بريق شاي".
كان باسل قد التحق بالمواجهات بعدما استحم كعادته، وارتدى هذه المرة ملابس جديدة أوصى شقيقته كاميليا على شرائها، ملابس تحاكي اللباس العسكري بلونها الأخضر.
حضرت هنا الشاي فوراً واستعدت لتخرج وتنادي باسل مرة أخرى، قبل أن تسمع صوت الرصاص الحي، تقول هنا، "شعرت به أصاب قلبي.. ركضت إلى الخارج فرأيت باسل يسقط على الأرض"، نادى عليه حينها أحد الشبان: "يلا يا باسل أسرع بلا مزح"، ولكن باسل لم يلبِّ النداء، فهو لا يمزح هذه المرة كما اعتاد عليه رفاقه في ميدان المواجهات، بل هو اليوم شهيد كما تمنى وسعى.
"باعوا القدس.. باعوها" سمع أهالي عناتا باسل يهتف خلال المواجهات يوم الجمعة الموافق 15 كانون أول2017، وبينما يتقدم بحجارته كان يردد صرخاته للشبان، "لا أحد يهرب.. لا أحد يهرب".
أمام تقدم الشبان وغزارة حجارته، تراجعت قوة جيش الاحتلال واستمر الشبان بملاحقتها، إلا أن أحد الجنود بقي مختبئً خلف الجدار، ليسدد رصاصته إلى صدر باسل.
"فداء للأقصى، فداء للقدس"، كان يردد باسل لوالدته كلما حاولت منعه من الالتحاق للمواجهات، وكان يقول لها: "وهل أحلى من أن يكون ابنك هو شهيد عناتا؟".
وتذكر كاميليا السادس من آذار 2017، حينما انتشر خبر اغتيال الاحتلال الشهيد باسل الأعرج، حينها وقف باسل يتأمل بوستر الشهيد باسل الأعرج، "الشهيد باسل.. ما أحلى كلمة الشهيد مع اسم باسل"، قال مبتسما فيما اقتربت منه كاميليا ولكزته بعنف مطالبة إياه السكوت، فهي لا تقوى على استيعاب فكرة فقدانه، ليكرر مجدداً، "تأملي ما أحلى الكلمتين: الشهيد باسل".
ظهر ذاك اليوم، رفض باسل تناول طعام الغداء مع العائلة وجلس يتابع نشرات الأخبار التي أعلنت ارتقاء الشهيد محمد أمين العدم، بعد تنفيذه عملية طعن فدائية خلال مواجهات اندلعت في المدخل الشمالي لمدينة البيرة، علق باسل حينها، "لا أعلم كيف تستطيعون الأكل بعد أن رأيتم صور الشهيد"، قبل أن يخرج من المنزل وقد وعد أن يعود بعد ساعات.
وفي المساء، وضع جثمان باسل إلى جانب جثمان أحمد في ثلاجة الموتى داخل مشفى فلسطين الطبي.