كما كان متوقّعاً تماماً؛ تدحرجت كرة الاتفاق الفلسطيني الداخلي المسمّى مصالحة، متجاهلةً كل العثرات التي كان يجب أن تتوقف عندها لتسويتها، ثم ها هي تتوقف أمام سلاح المقاومة، صحيح أن غبار الشغب والتصريحات الشوهاء المرافق لها لم يفلح في إحناء رقبة السلاح، ولا نجح في حمل الرأي العام على المطالبة ببحث ملفه، وإخضاعه لمعايير السلطة الفلسطينية المظللة بعار التعاون الأمني مع الاحتلال الصهيوني، إلا أن علوّ هذا الصخب فجأة وتجاوزه حالة الآراء الفردية لا يبشّر بخير، ويقول كلّ شيء حول ملابسات المصالحة من الأساس، ودوافع المباركة أو الرعاية الإقليمية لها (سيما المصرية).
وبما أن من أميز ملامح هذه المرحلة الوضوح الفج في كل شيء، كوضوح الهرولة العربية للتطبيع مع كيان الاحتلال، ووضوح نوايا محور الثورات المضادة وافتضاح أجنداته وأدوات تخريبه في المنطقة، فإن هذا الوضوح في الغايات لم يستثنِ غزة، وبدا مراد السلطة الفلسطينية مكشوفاً للغاية من توجهها للمصالحة، وهي لا تملك الوقت لتتأنى بحيث تؤجل بحث ملف سلاح المقاومة، بل تبدو متعجلة لإقحامه على طاولة البحث رغم معرفتها بحساسيته، وهي بهذا ليست فقط مدفوعة بالضغط الإسرائيلي والإقليمي العربي، إنما مستغلة كذلك المأزق الذي تمرّ به حركة حماس، وهو الناشئ بالدرجة الأولى عن حصار غزة الخانق، وارتباط ذلك الحصار بوجود حماس في غزة، ووفرة سلاحها أيضا.
يبدو المشهد اليوم مغرقاً في السخف، فمن جهة لا يزال هناك من يسرف في تحميل أوزار تعطل المصالحة لما يسميه طرفي الانقسام، أي حماس وفتح، دون أن يجول بنظره على تفاعلات الواقع من حوله، وهو في الوقت نفسه يبدي انحيازه لمشروع المقاومة، لكنه يمتنع عن الكلام حين يتم تهديد هذا المشروع، ويحجم عن الدفاع عنه، دفاعاً يوازي أو يتوافق مع قدر شعاراته المنحازة له.
ومن جهة أخرى لا يفطن كثير من المتابعين للمشهد، وتحديداً من يعولون على المصالحة أكثر مما ينبغي بأن استنساخ تجربة إذعان السلطة الفلسطينية في غزة من جديد هو أمر كارثي، لأنه سيطوي صفحة القضية الفلسطينية إلى أجل غير معلوم، وسيفقدها كل مقومات حضورها، ويجرّدها من آخر أوراق قوّتها، وهي التي تكاد تنحصر اليوم في سلاح المقاومة في غزة، بكل ما يمثله من وفرة ونزوع للتطوير والإبداع، وبما يعنيه من آلاف المقاتلين الذين نشؤوا في بيئة سياسية وأمنية نظيفة، ورصدوا سلاحهم لمواجهة المحتل وليس لحمايته، أو لملاحقة مقاوميه.
سلاح المقاومة خط أحمر، هذه ليس صيغة شعاراتية، بل حقيقة معمّدة بالدماء، وبجهد المقاتلين الأبرار فوق الأرض وتحتها وفي سمائها، حيث حلّقت صواريخهم وطائرات استطلاعهم المصنعة محليا، ومن يجرؤ على المطالبة بتجريد فلسطين من مصدر بهائها الوحيد، وقطع أطرافها، ونزع شوكتها هو بوق لعدوّه في أهون الأحوال، وخائن متآمر في أسوئها، فليس كل شيء قابلاً للبحث والمساومة ولإخضاعه لمزاد التنازلات.
هذا السلاح ليس ملك حماس رغم أنها المؤتمنة عليه وراعيته ورائدة تطويره، هو ملك لمظلومية الفلسطينيين، والجدار الذي يستند إليه حقهم في مجابهة عدوهم ودحره، هو ملك الفطرة الفلسطينية المجاهدة التي لم تخضع لترويض الوعي، ولم تتحوّل أنظارها عن غاياتها الكبرى، ولذلك يجب أن يظل خارج دائرة البحث والتناول، والمساس به مساس بالشرف والمقدسات والثوابت.
"إلا السلاح" ينبغي أن يكون شعاراً فلسطينياً جديدا، لا يردده الحمساويون في مواجهة الفتحاويين، بل يعتنقه كل من لم يلوّثه الزيف ولم يصرفه التعب عن أصول القضية، قضية التحرير، بمتطلباتها ومسؤولياتها الكبيرة، لا قضية الحاجات المادية التي ضخّمها عرابوها حتى صارت ندّاً للكرامة، تحاول أن تنازعها مكانها، وأن تسقطها من كل اعتبار.
لا ينبغي لإكراهات الواقع أن ترغم الأحرار على التنازل عن منارة نمائنا الوحيدة الباقية، بعد أن غزا التصحر كل أطرافنا، فالتنازل عنها ليس مؤلماً وحسب، بل هو انتحار وسعي للجحيم ونكوص عن المبادئ، وتسليم مجاني للرقاب لكي يقطعها الخائنون دونما عناء أو مقاومة!
المصدر: مدونات الجزيرة