هناك محور يسمي نفسه محور المقاومة أو محور الممانعة، وهو يعلن عن نفسه ويمتد من طهران مروراً ببغداد ومن ثم دمشق وبعض لبنان. وهو محور ينتظر انضمام أهل القضية الفلسطينية الذين ما زالوا يترددون ويتشككون ويخشون أقطاب تحالفات كانوا قد سبق وأن حسموا أنفسهم عليها. منهم من حسم نفسه على الكيان الصهيوني والولايات المتحدة وهم أهل أوسلو، ومنهم من تفاءل بانتصار الحركات المتمسلمة التي خسرت المواقع التي سيطرت عليها في عدد من البلدان العربية.
في مقابل محور المقاومة، هناك محور الهزيمة الذي لم يعلن عن نفسه حتى الآن، ولا أرى أنه سيعلن، وسيبقى يبتلع حسرات الهزيمة بصمت ولكن بدون التوقف عن العمل التحتي للتخلص من أركان محور المقاومة. ومثلما سيحيك محور الهزيمة المؤامرات، لا أرى أن محور المقاومة سيبقى متفرجاً مخلياً الساحة لقوى عربية وغير عربية تعبث بالمنطقة. وهو محور هزيمة لأنه يعمل دوماً على المحافظة على الأمر الواقع، وهو عمل يخل بالقاعدة التاريخية التي تقول إن التاريخ في حالة تغير مستمر. وهو يحافظ على الوضع القائم لأنه مسيطر ويملك المال ويستطيع استقطاب المناصرين والمنافقين ومرضى القلوب. محور المقاومة هو المستقبل ولا يمكن لصاحب الماضي الذي يظن أن التاريخ لا يتغير أن ينتصر على المستقبل. الماضي قد مضى وانتهى، ولا يمكن أن يعود إلى الحياة ليكون المستقبل.
ليس الهدف أن أحدد أقطاب محور الهزيمة لأن ذلك من شأنهم، ولكن بسبب إغماض عيونهم عن أنفسهم، أرى من الضروري الاجتهاد في تعداد بعضهم. يشمل هذا المحور أولاً الكيان الصهيوني، ومن ثم عملاءه العرب الذين يقدمون الدعم والمساندة في كثير من المناسبات والمواجهات. هؤلاء العملاء والحلفاء هم في الغالب الأنظمة القبلية االمتصارعة حالياً وعلى رأسها النظام السعودي ومن سار على خطاه خليجياً. وهناك قوى 14/آذار اللبنانية التي حاولت جاهدة إشغال حزب الله بالفتن الداخلية وتوريط لبنان بالهجمات الإرهابية. أما المعلم الأول لهذا المحور هو الولايات المتحدة التي تستخدم ثقلها على الدوام لتخريب المنطقة وتفتيتها وإشغالها في حروب مدمرة خدمة للكيان الصهيوني ولمصالحها هي.
محور المقاومة له تاريخ تشكلي قصير، لكنه لم يظهر فجأة، إذ بدأ مع الثورة الإيرانية ومن ثم مع تشكيل حزب الله في لبنان، واشتعال المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني للجنوب. وقد وجد هذا المحور نفسه وأدرك مدى فعاليته عند طرد الاحتلال الصهيوني من جنوب لبنان، وتعزز الإدراك مع حرب تموز عام 2006 والتي أقامت شأناً كبيراً لحزب الله. دخلت سوريا على خط هذا المحور في طور التشكل أثناء المقاومة اللبنانية للاحتلال الصهيوني، وفتحت الأبواب أمام السلاح الإيراني للعبور إلى لبنان. وسوريا ساهمت بقوة بعد ذلك بتزويد حزب الله بما تيسر من الأسلحة بخاصة الصاروخية لإلحاق الهزيمة بالكيان الصهيوني. وتدحرجت الأمور إلى أن ظهرت القاعدة ومن ثم النصرة وتنظيم داعش، فتصاعد التفاؤل بانضمام بغداد لهذا المحور ليشكل سداً منيعاً يمكن أن يغير مجرى تاريخ المنطقة. لم تحسم بغداد نفسها علناً حتى الآن على محور المقاومة، لكنه من المتوقع أن تكون ركناً أساسياً فيه.
محور الهزيمة ذو تاريخ يمتد منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى الآن. سيطر الحلفاء على المنطقة العربية الإسلامية بعد انتصارهم في الحرب، وتحكموا بمصيرها السياسي وبخرائطها الجغرافية. لقد فتتوا المنطقة وفق مصالحهم ونصبوا حكاماً يأتمرون بأوامرهم. كانت بريطانيا هي رأس الأفعى التي جزأت المنطقة بطريقة تستنزف العرب والمسلمين وتبقيهم أدوات بيدها خدمة لسياساتها ومصالحها، وتسلمت أمريكا السم الزعاف بعد أن أفل نجم بريطانيا. والحكام العرب والمسلمون المنصّبون قاموا بواجبهم الاستعماري في صناعة ثقافة الهزيمة لدى شعوبهم وطوعوا هذه الشعوب للاستسلام والشلل والكسل واللاأبلية. لقد استدخل العرب والمسلمون الهزيمة بحيث أنها أصبحت جزءاً من تركيبتهم التربوية والنفسية. وقد ظهر منظرون للهزيمة وفلاسفة، وبرز أنور السادات ليكون القدوة النهائية لاستسلام العرب بفلسفة واضحة ومتماسكة وخطوات عملية مجسدة لها، ودون أن تكون البيئة العربية رافضة لها. وقد ظن الغرب الاستعماري أن الأمور قد استقرت له في المنطقة نهائياً وأنه يستطيع أن يتلاعب بها كيفما شاء. لكن التاريخ لا يسير خطياً، وإنما سيره يبقى انحنائياً ديناميكياً وحيوياً خاضعاً لتأثير عوامل كثيرة ومتعددة تجعله في حالة تغير مستمر. انتصر الغرب في بعض المواقع بالإرهاب، وساهمت معه دول عربية وإسلامية كان من بينها إيران الشاه. لكن الإمعان في الخطأ التاريخي ارتد في النهاية على محور الهزيمة.
أخطأ أهل الغرب في تقديرهم بأن المهزومين يمكن أن يحققوا الانتصارات وتستمر سطوتهم على الشعوب. اعتمد أهل الغرب على من لا يعتمد عليهم، والذين يخونون شعوبهم لا يمكن أن يكونوا أمناء على مصالح غيرهم. واعتمد أهل الغرب والحكام على ظن بأن الشعوب يمكن أن تبقى قطعان غنم إلى الأبد. الظلم يولد نفيه، ولكل وضع نقيضه يستمر في نشاط تاريخي حتى يحصل الانقلاب.
حاول الصهاينة والغربيون الاستعماريون والحكام تثبيت رؤاهم التاريخية من خلال تنظيمات إسلامية تحمل شعارات إسلامية خاوية من الإسلام. لكن مخططهم غرق في بحر من الهزائم المتتالية. لقد أنفق العرب مليارات الدولارات على التخريب والتدمير، وهم سينفقون مليارات رغم أنوفهم على إعادة الإعمار. وفي هذا المنحى الإرهابي كسب محور المقاومة زخماً جديداً بحيث انبعثت الحياة بمحور قومي معادي للصهاينة ولأهل الغرب الاستعماريين وللحكام العرب القبليين. وزخم محور المقاومة لا يتأتى حقيقة من هزيمة داعش والنصرة، وإنما من الدروس القاسية والصعبة والمريرة التي تجرعتها أنظمة العرب من مأساة الصراعات الداخلية والتدخلات الخارجية. لا مفر ستفرز تجارب السنين السابقة تفكيراً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً جديداً يخرج العرب وبعض المسلمين من وضعية المطايا إلى وضعية البحث عن الذات وتأكيدها. أي أن التوجه الفكري الجديد الذي يستجد على المنطقة سيخرج الاستعمار من عقول الناس وقلوبهم، وسينتزع الهزيمة من نفوسهم وعقولهم وبرامجهم التربوية. أي سينبثق نظام الحكم الجديد والإنسان الجديد، وهذا الذي سيدفع الاستعمار إلى تغيير رؤيته نحو العرب والمسلمين، والذي سيضع الكيان الصهيوني على أعتاب خطر الزوال.
الآن هي مرحلة الانقلاب التاريخي في المنطقة العربية الإسلامية الذي يندحر فيه محور الهزيمة لصالح محور المقاومة، وهو الانقلاب الذي سيجبر الغرب على التعامل باحترام مع بعض العرب والمسلمين، ومع الزمن ستبدأ الولايات المتحدة بالتعامل مع المنطقة وفق قواعد المصالح المشتركة، وليس وفق معادلة الآمر والمأمور. لكن هذا يحتاج إلى إرادة قوية من قبل قادة المحور الجديد ومن قبل المثقفين والمفكرين ورجال الدين المتنورين. لا بد من قيادة عربية إسلامية للتغيير، وهي قيادة يجب أن تكون متنورة وعلى درجة عالية من العلم، أو على درجة عالية من التعاون مع العلماء من مختلف التخصصات. أما إذا بقي أبو العرّيف هو الذي يحكم، فإننا سنكون قد خسرنا اللحظة التاريخية التي يجب الصعود على سلمها.