حتى عهد قريب ظلّ الخطاب الإعلامي والشعبي للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية يُعلي من شأن الشهداء والأسرى، ويؤكد خصوصيتهم، وأنهم فوق الخلافات السياسية، بل ويحاجج خصومه بأن السلطة ترعى عائلات الشهداء والأسرى وتخصص لهم رواتب شهرية تغنيهم عن العوز، وتحفظ كرامتهم، وأنها قدمت لهم ما لم يقدمه غيرها، مع أن قسماً كبيراً من موارد السلطة يُجبى من الضرائب التي يدفعها عموم الفلسطينيين. وكان كل هذا يحدث رغم إساءة أجهزة السلطة لقسم كبير من الأسرى المحررين من سجون الاحتلال، عبر إعادة اعتقال وتعذيب عدد منهم، ولا سيما من لديه منهم نشاط واضح ضد الاحتلال.
ولكن سيتضح فيما بعد أن زيارة محمود عباس لواشنطن ولقاءه ترامب واستماعه لمطالبه وإملاءاته سيلقي بظلاله المباشرة السلبية على هذه الشريحة من الجمهور الفلسطيني، أي على ذوي الأسرى والشهداء، فكانت البداية بقطع رواتب نحو 250 أسيراً ومحررا، معظمهم من محرري صفقة وفاء الأحرار، أي ممن ثبت تنفيذهم عمليات مقاومة ضد الاحتلال، في تساوق فوري مع الطلب الأمريكي بهذا الخصوص.
أما ما كانت تعرف بوزارة الأسرى والمحررين، فجرى تحويلها إلى هيئة، ثم يبدو أنها في طريقها لتصبح جمعية أهلية لمتابعة شؤون الأسرى، أي أن السلطة تتخلى بالتدريج عن التزاماتها تجاه الشريحة التي قاومت الاحتلال، ولا تبالي بترك عائلاتها دون مصدر دخل، لأن الرسالة المطلوب تأكيدها هنا هي إظهار كلفة العمل المقاوم، ومدى فداحة ضريبته، وكيف أنه سيؤثر بشكل مباشر على ذوي المقاوم أو المناضل، بل سيكون ممنوعاً على أي جهة أن تمدّ لهم يد العون، بدعوى أن ما يقدم له من تعويضات سيعدّ تمويلاً للإرهاب.
ما يجب أن نعلمه أيضاً أنّ الأموال التي تقدّمها التنظيمات الفلسطينية (حماس والجهاد الإسلامي تحديداً) لعائلات الشهداء والأسرى كتعويض لهم تعدّ محظورة أيضاً في عرف السلطة والاحتلال، ويعاقب ناقلها وموصلها لأصحابها، ومؤخراً متلقيها، بالسجن ومصادرة الأموال والممتلكات.
هكذا تضيق الحياة شيئاً فشيئاً على الشريحة الأنبل والأشرف والأكثر عطاءً وتضحية داخل فلسطين، أي جمهور المقاومة، وتلاحَقُ في رزقها وقوت عيالها، بل قد تُحرم من إنشاء مشاريع تجارية خاصة بذريعة الخوف من غسيل الأموال، وهي تهمة فورية وجاهزة وتفيض بها سجلات محاكم السلطة، رغم أن معظمها بلا دليل. وفي الجهة المقابلة فإن حرب التجويع والحصار على غزة تخدم الأهداف ذاتها المبتغاة من تصعيب حياة جمهور المقاومة.
لا تبدو السلطة مكترثة بالفضيحة الأخلاقية المترتبة على أفعالها الأخيرة تلك، بل نجدها تسارع لفض اعتصام الأسرى المحررين المقطوعة رواتبهم أمام مجلس الوزراء في رام الله، تماماً مثلما أنها لم تكترث بصورتها أمام العامة وهي تعلن عزمها تشديد الحصار على غزة، لكنها لا تخجل في المقابل من الادعاء المستمر بأنها تحمل مشروعاً وطنياً وتسعى لكنس الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، بينما لا تقول لنا كيف ستفعل ذلك فيما نراها تسدد ضربات عقابية للمقاومين وذويهم، أي لدعامة أي مشروع وطني تحرري في أي مكان محتل، وتُصدّع صمودهم بدل أن تدعمه وتعززه، وتلاحقهم في أرزاقهم بدل أن تكافئهم، أو على الأقل بدل أن تغضّ الطرف عن أي مساعدة أو تعويضات تصلهم من جهات أخرى، ذلك أن أبسط تجليات المنطق تقول إن مهمة الكيان الوطني دعم صمود الناس وتعويض المتضررين منهم بفعل إجراءات الاحتلال، وعلى رأسهم ذوو الشهداء والأسرى، ومن آذاهم الاحتلال بهدم بيوتهم أو مصادرة ممتلكاتهم.
نعلم جيداً أن المنطق غائب عن حسابات هذه السلطة، وأن التنكر لعذابات شعبها أمر عادي جداً لديها، ويمكن أن يقايَض بالرضا الإسرائيلي أو الأمريكي، لكن السؤال الأخلاقي هنا لا يمكن أن يتوقف أو يصبح مستهلكا، وما يجب على السلطة أن تقوله لشعبها هو تفصيل المقابل الحقيقي لكل ذلك الانبطاح أمام الرغبات الأمريكية! فلماذا تفعل ذلك؟ وما هو المقابل الذي ستجنيه حين تضحي بكل أوراق القوة لديها، وحين تتحول إلى جلاد معلن لشعبها؟ وهل مجرد وعد يتيم من الإدارة الأمريكية باستئناف المفاوضات يستحق كل ذلك الإذعان؟ أم أن علينا أصلاً أن نبحث في الدور الوظيفي لهذه السلطة منذ تأسيسها؟ لنتوقع أنها ستتحول في مرحلة معينة إلى خانة العداء المطلق لتطلعات شعبها والاستهتار بتضحياته، وتقديمها قرابين على مائدة المفاوضات؟
ثمة خديعة كبرى اكتنفت ظروف تأسيس وتمدد السلطة، غير أن الجدوى الحقيقية من وجودها كانت مغلّفة بخطاب دعائي مخاتل، وبكم غير محدود من زيف الشعارات، وبأبواق إعلامية مهمتها تجميل الموبقات الوطنية، أما ضحايا هذه الدعاية فلم يكونوا فقط من المنتفعين من وجود السلطة، بل أيضاَ من بعض الطيبين الذين يفضلون تقبّل الوهم والتعايش معه على مواجهة سطوع الحقائق واستحقاقاتها.