قُرع جرس القمع الفكري في الرياض وأبو ظبي، فتردد صداه في الأرض التي تديرها السلطة الفلسطينية أمنياً وإدارياً، أي في الضفة الغربية، حيث تجرّب أذرع السلطة المختلفة والمنتفخة وهماً أن تمارس سيادة شكلية عمادها القمع والتشبيح والتضييق على الحريات، إضافة إلى وظيفتها الأساسية والدائمة وغير المتأثرة بتقلبات المناخ السياسية، أي التعاون الأمني مع الاحتلال وتأمين جبهته.
فبعد حظرها مجموعة من المواقع الإخبارية المهمة، الفلسطينية والعربية، كان ينقص اكتمال (هيبة) مشهد السيادة المخرومة أن تحجب السلطة موقع كتائب القسام، فبادرت لفعل ذلك، فيما تستمر في التنقيب عن مواقع أخرى تستحق المنع عبر أذرع مراقبتها الإعلامية التي قوامها جيش من (المناديب) محدودي الذكاء، لدرجة أن كثيراً منهم لا يفرقون بين المعلومة والتحليل، وبين رأي عليهم وآخر لهم!.
بهذا الفعل لا تعلن السلطة فقط التزامها بإملاءات الإدارة الأمريكية حول مكافحة (الإرهاب) ووقف التحريض على مقاومة الاحتلال، بل تؤكد هذه المرة أن المقاومة لا تمثّلها، لا تُشابه خطّها، لا تحمل ملامح مشروعها، ولا تتقاطع معه أخلاقياً ووطنياً وإنسانيا.
ثمة مشهد متشابك الخيوط يتشكّل في الإقليم، باصطفافات جديدة وبترسيم جديد لحدود الأخلاق والمبادئ والقيم الأساسية، وفي هذا المشهد تختار السلطة بكلّ جلاء أن تنحاز إلى محور أنظمة الثورة المضادة، أو (أنظمة الرز)، إما طمعاً في عطاياها أو لأن نهج الإفساد والتخريب والقمع الذي تنتهجه تلك الأنظمة يمثّل السلطة، ويلبي طموحها وتَصوّرها للمسار الذي تحب أن تتبناه وتلزمه إذا صار لها دولة حقيقية ذات سيادة. وحجب المواقع الإخبارية وملاحقة أصحاب الرأي يبدو اليوم في قلب سياسات ذلك المحور، وسياساته الخرقاء هذه تنسحب على جميع فاعليه أو الطامحين إلى أن يكونوا حلقة في سلسلته، والسلطة أحدهم بطبيعة الحال.
عبثية قرارات حجب المواقع ينبغي ألا تصرف النظر عن كونها جريمة بحق حرية الرأي والتعبير، وعما يعنيه ذلك من أن هناك توجهاً لانتهاج قمع معلن ودونما حاجة لتبريره.
لا ندري حتى الآن إذا ما كان مُصدرو قرارات الحجب قد درسوا جدواها أم لا، لأن عصر التقنية العالية والمتطورة بوتيرة متسارعة لم يعد يجدي معه هذا التهريج الإلكتروني، ولأن عصر الانعتاق الشعوري من سطوة القمع يجعل للكلمة الممنوعة سحراً وبريقا، ويغري بتعقبها والبحث عنها، فكيف والظفر بها بات يسيراً ولا يلزمه سوى اعتماد إعدادات تكنولوجية يسيرة ومتاحة لتجاوز الحجب وإلغاء الحظر؟
والأهم من ذلك أن ضآلة مردود هذه الخطوة يؤكدها طغيان سلطان الإعلام الاجتماعي، فغالبية رواد الإنترنت من فلسطينيين وعرب لا يستقون المعلومة من مواقع إخبارية تقليدية، بل مما توفره منصات الإعلام الجديد، وهذه من الصعب حظرها، فضلاً عن كونها حافلة بسيولة معلوماتية متحررة من كل مقصّات الرقيب، وتُعرض بأشكال وقوالب ذكية وجذابة تحقق تأثر الجمهور بها وتفاعله معها، بل إن هناك صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي توفّر لمتابعيها كل ما يحتاجونه من معلومات وأفكار وأخبار محجوبة، ودون عناء منهم في البحث. ولذلك نجد أن الاحتلال الصهيوني يركّز حربه على وسائل الإعلام الجديد وليس على المواقع التقليدية، لأنه أدرك أن فيها سرّ التأثير والتفاعل السريعين.
لكن عبثية قرارات الحجب تلك ينبغي ألا تصرف النظر عن كونها جريمة بحق حرية الرأي والتعبير، وعما يعنيه ذلك من أن هناك توجهاً لانتهاج قمع معلن ودونما حاجة لتبريره، تماماً مثلما صدرت قرارات في بعض العواصم الخليجية تقرر أن تعاطف مواطنيها مع قطر أو انتقادهم سياسة حكوماتهم بهذا الخصوص سيقابله عقاب يصل إلى السجن عدة سنوات!
المبشّر الوحيد في كل ما يجري أن الهبوط لهذا الدرك من خشية الكلمة ثم اختيار مواجهتها يعكس بالضرورة اهتراء حال رعاة القمع الجدد، وبلاهة سياساتهم التي لن تجلب سوى مزيد من الحنق عليهم، حتى لو اختارت الأغلبية الصمت، لأن الصمت في هذه الحالة ليس علامة رضا، بل محاولة لتجنب العقاب، وهي حالة قد تكون مؤقتة، لكنها تظل تراكم عوامل الغضب والانفجار وإن طالت.
وليس أخسر ولا أوهن ممن يفضّل أن ينعم بصمت الجمهور خوفاً ورهبة، على أن يصله صوت احتجاجه ووجاهة رأيه المقابل، ويبدو أن أكثر ما تخشاه طغمة الإفساد والاستبداد على مر العصور أن تسمع من يذكرها بهوانها وخيبتها، وبموضعها الحقيقي على مؤشر الشرف، وبثقلها الفعلي في ميزان الأخلاق!.
مدونات الجزيرة