شبكة قدس الإخبارية

محمد لافي..عاشق رسم بدمائه الطريق نحو الحرية

ديالا الريماوي

القدس المحتلة - خاص قدس الإخبارية: إطارات مشتعلة، رصاصات تقابلها حجارة يُسمع صدى ارتطامها بالأرض والآليات العسكرية، أصواتهم ما زالت تصدح، شبان يحملون أرواحهم على راحاتهم، أيديهم يملؤها الغبار وأحيانا الدماء، لكن هناك من غاب عن هذا المشهد منذ عام، فمحمد أبو لطيفة الذي كان دوما يتقدم الصف الأول في مواجهات مخيم قلنديا شمال القدس اختطفته أربع رصاصات من عائلته وأحلامه.

في السادس والعشرين من تموز العام الماضي، عاد محمد عطا لافي (20 عاما) في ساعات المغرب إلى منزله سلّم على والديه وقبل يديهما، ليبقي بضعة دقائق ومن ثم يخرج ويعود مجددا منتصف الليل، قبّل ثانية يدي والديه ما أثار فضولهما وقالا له:"شو قصتك اليوم؟"

توجه محمد إلى القهوة التي افتتحها مع صديقه قبل عدة أيام، وبعث رسالة إلى أصدقائه يقول فيها: "فتحت لكم القهوة حتى تضلكم في الشوارع؟ تعالوا عندي بدي أجيبلكم بيتزا".

الثانية فجرا طلبت والدة محمد من زوجها أن يتوجه للقهوة ويوصي محمد بعدم التأخر، وعندما وصل استقبله نجله وقبّل يده فرمقه والده بنظرة استغراب، وسأله محمد إذا كان يود أن يعد له "أرجيلة" أو قهوة، لكن والده أخبره سبب قدومه ومن ثم عاد لمنزله.

مرهقا عاد محمد عند الساعة الرابعة فجرا، ولم يكد يغمض عينيه حتى حاصر جنود الاحتلال منزلهم بعد نحو نصف ساعة واقتحموه، استيقظ والده ليجد أمامه نجله البكر لافي ويسأله عن محمد فيجيبه بأنه توجه نحو السطح، بدأ الجنود بالبحث والسؤال عنه وأخبروا والده بأنه مطلوب.

يقول لافي شقيق محمد: "الفرقة التي جاءت لاعتقال محمد هي "اليمام" ومهمتها اعتقال الشخص بأي شكل، وأي هدف يتحرك يكون في مرمى قناصيها".

كان الجنود يتتبعون هاتف محمد، وعندما فتشوا غرفته ووجدوا هاتفه علموا أنه قد هرب، فأوعز الضابط الإسرائيلي للقناصة بإطلاق النار عليه عند رؤيته، وفي تلك اللحظات سمع والد محمد صوت إطلاق أربع رصاصات، لكنه ظن أن مواجهات اندلعت مع الشبان. كان على سطح المنزل عندما أطلق القناصة النار صوبه وأصابوه بجروح، إحدى الرصاصات أصابت الشريان الرئيسي في فخذه، لكنه ورغم إصابته رفض أن يسلّم نفسه فاستجمع قواه وبدأ يقفز على أسطح المنازل المتلاصقة في المخيم، وكلما خطى خطوة ترك خلفه آثار دمه النازف.

كان جسده ملقى على الأرض ويداه تحاولان الوصول إلى حافة السطح، لكن دون فائدة ليلفظ أنفاسه الأخيرة ويرتقي شهيدا، عندها استطاع جنود الاحتلال الوصول إليه، ورغم ذلك كبلوا يديه وقدميه وسحبوا غطاء سرير أبيض من سطح المنزل وغطوه به.

من منزله خرج الجنود حاملين جثمانه المغطى، لكن عائلته كانت في تلك اللحظات بإحدى غرف المنزل لا تعلم ماذا حلّ بنجلها وتعتقد أنه نجح في الهروب. عقب انسحاب قوات الاحتلال تجمع أهالي المخيم أمام منزلهم وبدأوا بالحديث عن الاقتحام.

صعد شقيق محمد الأصغر، وسام يبحث عنه على سطح منزلهم ليجد حذاءه وعليه آثار دماء، نزل مسرعا وأخبر عائلته بأن محمد أصيب وبدأت عائلته بتتبع آثار دماء قدمه وكفه، ليعلموا فيما بعد أن محمد في مستشفى رام الله وهناك تلقوا خبر استشهاده.

عقب استشهاده، لاحظت مخابرات الاحتلال أن مخيم قلنديا انتقل من مرحلة إلقاء الحجارة إلى اشتباك مسلح، فأرادت تهدئة الوضع وتبرير الجريمة، فتم استدعاء شبان كثر وحاول الضابط الإسرائيلي في منطقة شمال القدس مخاطبتهم زاعما أن هدفهم لم يكن اغتيال محمد، إضافة لنشر منشورات كثيرة على موقع "الفيسبوك" تتضمن الرواية الإسرائيلية.

محمد حاضر

في السادسة عشر من عمره اعتقله جنود الاحتلال بتهمة وجود اعتراف عليه، حاول المحققون خلال فترة التحقيق انتزاع اعتراف منه على تهم كثيرة دون فائدة، وبعد نحو ثلاثة أشهر اضطرت محكمة الاحتلال للإفراج عنه نتيجة لعدم اكتفاء الأدلة.

محمد الذي هُجّر جده من قرية صرعة قضاء القدس، آمن أن الطريق إليها لن يكون إلا من خلال المقاومة، فكان يتقدم الصفوف في كل مواجهة، ويشارك في عروض عسكرية خلال فعاليات وطنية، وهو ما عرفته عائلته لاحقا.

يقول لافي: "وجود ومشاركة محمد في أي مواجهة كانت ضرورية بالنسبة له، كذلك الأمر في جنازات الشهداء والفعاليات الوطنية".

ومن منطلق حرصه، كان من بين القائمين على إصلاح الأوضاع في مخيم قلنديا ويسعى لمكافحة كافة الظواهر السلبية التي استطاع الاحتلال أن يروجها، كما كان دائما يدعو للوحدة الوطنية.

عاشق

في عام 2013 نشأت علاقة حب بين محمد وفتاة من المخيم، أحبها بشدة وحلم بأن يؤسس معها عائلة فتحدث مع والده بهذا الشأن، لكن والده طلب منه تأجيل هذه الخطوة لأن شقيقه الأكبر لافي لم يخطب بعد، إضافة إلى أنه في تلك الفترة كان يبني لكليهما.

حاول محمد مع والده كثيرا، ووصل الأمر أن يبعث أشخاصا يتوسطون له لدى والده، وفي نهاية المطاف وافق والده، وقبل استشهاده بشهر ذهب برفقة والديه لخطبة نور خليل، وعقب قراءة الفاتحة خرج محمد ووقف وسط المخيم يصرخ عاليا:"انتصرت عليهم وفزت بها"، وبدأ يوزع البقلاوة على المارة.

اشترى محمد كافة أثاث المنزل عن طريق "الشيكات" واتفق مع أصحاب الشركات أن يكون موعد التسليم عقب عام. في الثالث من شهر تموز، استشهد الفتى محمد الكسبة من مخيم قلنديا، توجه محمد برفقة الشبان إلى مستشفى رام الله وضع مسدسه على صدره وقال:"ان شاء الله وراك"، وخلال استعداد الشبان لتشييع جثمان الشهيد، كن بنات عمه يقفن على باب منزلهم وأثناء مرور محمد قال لهن:"إلى الداخل بسرعة" لكن ابنة عمه مروى قالت له:" دعنا يا محمد نشاهد جنازة الشهيد"، فرد عليها:" رح تشوفي قريبا جنازة ورح تحبيها أكثر".

"أبو عطا" "الكوشي" أبو عطعوط" صاحب البشرة السمراء، والضحكة الجميلة، الجريء والاجتماعي، المحب للأطفال ما زال طيفه يحلق في سماء المخيم، فهو لم يغيب عنهم يوما.