في ظل فقدان أي أفق سياسي وقيام "إسرائيل" بإحياء خطة إقامة "إسرائيل الكبرى"، واتجاهها أكثر نحو اليمين واليمين الأكثر تطرفًا، ورفض أي تسوية مع الفلسطينيين؛ تطفو على السطح أحيانًا، وتبقى تحت الماء غالبًا، أفكار تدعو إلى أن الحل الممكن عودة الضفة إلى الأردن وغزة إلى مصر.
وإذا كانت مثل هذه الأفكار لا تجد من يروج لها في العلن إلا أن البروفيسور سري نسيبة ألقى قنبلة في مقابلة صحافية أجراها مؤخرًا قال فيها "إنه رغم معارضته للخيار الأردني سابقًا إلا أنه الآن هو الخيار الوحيد المتاح، مع أن الأردن غير قادر على تحمل "عبئنا"، لا سيما في ظل ما يشهده الأردن والوطن العربي من تشنجات أمنية"، وتخلّى بذلك عن "الوثيقة" التي اتفق عليها مع عامي أيالون، أحد قادة حزب العمل وأحد القادة الأمنيين الإسرائيليين السابقين، قبل 14 عامًا، التي كانت في ذلك الوقت بالرغم ما انطوت عليه من تنازلات جوهرية مجانية خشبة الإنقاذ.
ولم يكلف نسيبة نفسه عناء تقديم تبرير كافٍ لهذا الموقف، واكتفى بإعرابه عن "عدم وجود قيادة فلسطينية، وعدم رضاه عما تقوم به السلطة التي أصبحت شعارًا فقط، إضافة إلى عدم وجود دعم للقدس، وعدم وجود جيش لتحرير فلسطين أو نصف فلسطين، وإلى أننا لسنا أقوياء في ظل ما يجري في الدول العربية من صراعات".
تأسيسًا على ذلك، لا خيار إلا الخيار الأردني إذا وافقت الأردن على ذلك الذي يشك بموافقتها. إذًا هو ليس خيارًا، بل تعبيرًا عن يأس مطبق، ما يدل على أن ليس فقط القيادات والفصائل التي تقادمت، وإنما تقادمت معها النخبة الفلسطينية التي لم تعد قادرة على التجديد والتطوير وتقديم أفكار ورؤى قادرة على فتح الطريق أمام خيارات وبدائل قادرة على إنقاذ القضية الفلسطينية من المأزق الشامل الذي تمر فيه.
وإذا كان صحيحًا قوله بعدم وجود قيادة، وهو صحيح إلى حد كبير، فالبحث يجب أن يدور لماذا حصل هذا، وكيف يمكن إيجاد قيادة فلسطينية؟ إلا إذا كان نسيبة يعتقد أن غيابها قدر رباني لا راد له، متجاهلًا أن غياب القيادة لا ينفي أن هناك شعبًا لا يزال حيًا كما أثبت منذ أكثر من مائة عام وكما يثبت حاليًا من خلال الصمود والمقاومة والمقاطعة وأشكال النضال الجديدة، والنهوض الثقافي الفلسطيني المترامي الأطراف في مختلف المجالات.
لم يفسر لنا نسيبة هل "إسرائيل" الدولة الاستعمارية الاستيطانية العنصرية الاحتلالية التي دمرت ما سمي "عملية السلام" وتقضي على خيار الدولة الفلسطينية، إذا لم تكن قد قضت عليه فعلًا؛ ستوافق أو يمكن أن توافق على الخيار الأردني، أم أنه يريد عقد الزفاف من دون العريس؟
هل يمكن أن توافق "إسرائيل" على الخيار الأردني؟ الإجابة عن هذا السؤال نجدها عند العودة قليلًا إلى الوراء. لنتذكر ما الذي دفع الملك حسين إلى خطوة فك الارتباط عن الضفة الغربية في العام 1988، على الرغم من أنها كانت ضمن مملكته عندما وقعت حرب حزيران، حين وقعت تحت الاحتلال الإسرائيلي مع سيناء والجولان، وحاول جاهدًا منذ ذلك الحين بكل ما يملكه من خبرات وعلاقات حسنة مع الولايات المتحدة الأميركية وغيرها أن يستعيد الضفة سلمًا وعبر إرساله رسائل الاعتدال، إلى حد أن الأردن لم يشارك في حرب أكتوبر 1973، إلا أن "إسرائيل" قابلت محاولاته وطلباته بأذن من طين وأخرى من عجين، إذ رفضت حتى مجرد إجراء فك ارتباط على الحدود الأردنية ولو بالانسحاب ولو كيلو متر واحد أسوة بما فعلت على الحدود المصرية والسورية بعد حرب أكتوبر، الأمر الذي دفع الملك الهاشمي بعد ذلك إلى خطوة فك الارتباط والاعتراف بالمنظمة كممثل شرعي وحيد للفلسطينيين.
ومما دفع الملك إلى هذه الخطوة أنه أدرك أنه لا يوجد في حسابات "إسرائيل" شيء اسمه "الخيار الأردني"، بل تراود أوساطًا إسرائيلية واسعة فكرةُ فرض حل على حساب الأردن ضمن خطة "الوطن البديل"، على أساس أن معظم سكان الأردن فلسطينيون، وبالتالي يمكن إقامة الدولة الفلسطينية هناك. ولكن عندما رسخت الانتفاضة الشعبية الأولى الهوية الوطنية الفلسطينية ومكانة منظمة التحرير بوصفها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني التي ترسمت عربيًا في قمة الرباط العربية العام 1974 كان لا مفر من قيام الملك الأردني على مضض بخطوته التاريخية.
فالأردن أدرك أن "إسرائيل" ليست بوارد الانسحاب من الضفة، وبالتالي: لماذا استمرار التنافس والصراع مع المنظمة على جلد الدب قبل صيده؟ وهذا الاستنتاج الذي وصل إليه الملك عبّر عنه في مناسبات وبطرق مختلفة، منها ما أخبر به محمد حسنين هيكل حينما التقاه في أحد مطاعم لندن بعد توقيع "اتفاق أوسلو"، حين قال له "لو أرادت إسرائيل أن تعطي شيئًا لأي أحد لأعطت للأردن، وبما أنها لم تفعل فإنها لن تعطي لأي كان، وخصوصًا المنظمة".
وقد أثبتت التطورات اللاحقة منذ توقيع "اتفاق أوسلو" وحتى الآن صحة تقدير الملك، الذي لو استمر في تنافسه مع المنظمة على تمثيل الفلسطينيين لتحمل لاحقًا المسؤولية عن النتائج الكارثية التي يتحملها الآن الممثل الشرعي الوحيد.
هناك من يستنتج مما تقدم خطأ إعفاء الأردن من المسؤولية، وخصوصًا أنه هو من فقد الضفة، وبالتالي تخطئة اعتماد المنظمة كممثل وحيد، في حين أن الاستنتاج الأصح هو عدم مدّ استقلالية القرار الفلسطيني إلى استقامتها وإلى حد رفع المسؤولية كليًا عن العرب وتحميلها لأصحاب القضية بمفردهم.
فالقضية فلسطينية أولًا وعربية ثانيًا ودولية إنسانية ثالثًا، والخبرة التاريخية هي التي تفسر الواقع الحالي الذي يشير إلى أن الأردنيين يكادون يجمعون على أن الأردن هو الأردن وفلسطين هي فلسطين، إذ أصبح الأردن من أشد المدافعين عن قيام الدولة الفلسطينية، لأن قيامها خط دفاع أول عن الأردن في وجه الأطماع التوسعية الصهيونية. كما أن هناك مسألة تعزز التوجه الأردني، وهي حساسية العلاقات بين الأردنيين والأردنيين من أصل فلسطيني التي هي أشبه باللغم القابل للانفجار في أي لحظة إذا تم الدوس عليه.
وما ينطبق على الضفة ينطبق بصورة أخرى مختلفة على غزة، فـ"إسرائيل" أرادت بسبب الكثافة السكانية الأعلى في العالم ومقاومة أهل القطاع وكونه ليس في قلب المخططات الإسرائيلية أن ترمي عدة عصافير بحجر واحد من خلال "انسحابها" من قطاع غزة، ومن ضمن العصافير المستهدفة رمي القطاع في حضن مصر التي ردت برفض الخطة الإسرائيلية، وهذا أدى لكي يكون أهل غزة هم الضحية.
فلو أرادت مصر أن تضم أو تعيد الإدارة المصرية للقطاع لفعلت ذلك، لا سيما بعد إعادة انتشار القوات الإسرائيلية المحتلة وخروجها من قلب القطاع واكتفائها بمحاصرته، غير أن سلوكها مختلف منذ تطبيق خطة "فك الارتباط" الإسرائيلية حتى الآن. وقطاع غزة كان ولا يزال ممكنًا أن يكون نموذجًا للوحدة والحكم الرشيد بدلًا مما حدث من الوقوع في الفخ الإسرائيلي من خلال الانقسام الأسود المستمر منذ تسع سنوات.
تأسيسًا على ما سبق، إذا كانت "إسرائيل" ليست بوارد الانسحاب من الضفة، فلماذا يريد نسيبة رمي عشرات السنين من التضحيات والكفاح والمعاناة التي تبلورت فيها الشخصية الوطنية الفلسطينية في كيان واحد على مذبح عدم رضاه عن القيادة الفلسطينية الحالية؟
ولماذا يريد إذكاء حدة التنافس الأردني الفلسطيني مجددًا على من يحكم الضفة الأردن أم المنظمة، وعلى ما هو الخيار الممكن الفلسطيني أم الأردني؟ فإسرائيل تريد الأرض وتنتظر الفرصة المناسبة للتخلص من السكان، وهذا يظهر من خلال استمرار تنفيذ مخطط الفصل العنصري والتهجير في الأجندة الصهيونية، الذي يظهر من خلال تصاعد الدعوات الإسرائيلية المباشرة بطرد السكان، أو من خلال الدعوة غير المباشرة إلى تحقيق نفس الهدف من خلال "تبادل السكان والأراضي"، فما زالت الحركة الصهيونية على مقولتها الأساسية "شعب بلا أرض لأرض بلا شعب"، وما يعنيه ذلك من إنكار وجود الفلسطينيين كشعب، الأمر الذي أدى ولا يمكن أن يؤدي إلا إلى استمرار المحاولات لنفي وجوده وطرده عند توفر الفرصة المناسبة.
لا يمكن قبول قيام نَفَر من النخبة السياسية بتحديد مواقفها على أساس المناكفة ردًا على أن "القيادة" لم تلتفت إليهم تحت حجة، ولو كانت صحيحة عن عدم وجود قيادة، لأن ذلك يستدعي توفير شروط إيجادها، وليس نبش القبور الذي لن يؤدي إلى إحياء العظام وهي رميم.