شبكة قدس الإخبارية

بالصور | بلال أبو غانم.. حكاية الحب والثأر

ديالا الريماوي

القدس- خاص قُدس الإخبارية: مضرجا بدمائه كان بلال أثناء استراقه النظر إلى صديقه الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة رافعا سبابته، ليدرك لحظتها أنه فارق الحياة شهيدا، بينما الرصاصات التي اخترقت جسده لم تحقق حلمه بنيل الشهادة، ليعيش ويروي تفاصيل حكاية سيتذكرها الأجيال عنوانها: بلال أبو غانم وبهاء عليان فدائيان زلزلا كيان الاحتلال.

"قهرتني وأنا علّمت عليك" رددها مرارا وتكرارا بوجه الضابط الإسرائيلي الذي لم يهتم لإصابة بلال وخطورة حالته الصحية، وبقي يحقق معه وسط جثث المستوطنين والمصابين على متن الحافلة الإسرائيلية بمستوطنة "ارمون هنستيف"، لكن إجابة بلال أغضبت المحقق الذي اعتدى عليه بالضرب المبرح حتى فقد الوعي.

عندما قهر الاحتلال بلال

في الثاني عشر من تشرين أول الماضي؛ عاد بلال أبو غانم (22 عاما) إلى بيته الكائن في بلدة جبل المكبر جنوب القدس، ينتظر أذان المغرب ليرتشف كأس ماء ويتناول وجبة الفطور التي حضرتها له أمه.

قال لها بكل هدوء وهو ينظر إليها باسما، "تعالي يما نامي على حضني"، فأجابته وهي تضحك، "لم تعد صغيرا أصبحت رجلا الآن"، فطلب منها أن تقرأ عليه القرآن ثم تتحسس رأسه لمعرفة إذا كان هناك جرح برأسه.

[caption id="attachment_88386" align="alignnone" width="600"]بلال أبو غانم في مراحل عمرية متعددة بلال أبو غانم في مراحل عمرية متعددة[/caption]

عندما اقتربت ساعات المساء، خرج بلال من منزله ليعود بعد وقت قصير غاضبا يشتم الاحتلال ومستوطنيه، جاءت أمه مسرعة تسأله ما به، فطلب منها أن تجلس ليناولها هاتفه مستعرضا مقطع فيديو للطفل أحمد مناصرة وهو ينزف دما وحوله مستوطنون يشتمونه ويتمنون له الموت، هذا الفيديو الذي أوجع وآلم كل من عرف ولم يعرف أحمد.

الطفل-الفلسطيني-ينزف-حتى-استشهد

لم تكن مشاهد اقتحام الأقصى، والاعتداء على المرابطات، وإعدام الأطفال والشابات في شوارع القدس بذرائع واهية سهلة على كل فلسطيني، تقول والدة بلال عطاف أبو غانم، "بلال كان متعلقا جدا بمدينة القدس والأقصى، فمنذ صغره كنت أبحث عنه عند أبواب المسجد الأقصى عندما تنطلق المظاهرات من هناك، وكبر وهو يتواجد بالأقصى ويذهب هناك ليحفظ القرآن".

الإجراءات الإسرائيلية التعسفية بحق المدينة وسكانها، كانت بمثابة الضغط الذي ولّد الانفجار، فخرج الفدائيون من قرى وبلدات القدس، كل منهم رد بطريقته على تلك الإجراءات. بينما تؤكد والدة بلال، "فيديو أحمد مناصرة هو ما آلم بلال، ولاحظت أنه تأثر به كثيرا وقال لي في حينها: ستتحرر فلسطين إن شاء الله".

فدائيان من جبل المكبر

فجر يوم الثلاثاء (13/تشرين الأول) استيقظ بلال ليصلي الفجر وعقب الانتهاء توجه نحو أمه ليقبل رأسها ثم عاد لنوم، وعندما اقتربت عقارب الساعة من السابعة صباحا رن هاتفه، فنهض سريعا ليجيب على المكالمة، فقد كانت تلك مهمة بهاء الأولى بأن يوقظ بلال.

timthumb

على صوت الهاتف استيقظت والدة بلال تسأله عن المتصل، ليجيبها بأن الرقم خاطئ، نهض وارتدى ملابسه وأثناء خروجه من المنزل سألته أمه إلى أين؟ فأجاب بأنه سيذهب إلى محل "الكوكتيل" حيث يعمل لينظف الأدوات لأنه لم ينظفها بالأمس.

بعد بضعة ساعات عاد بلال من المحل الذي كان بجانب مطبعة بهاء إلى منزله، توجه نحو غرفته وارتدى قميصه الأبيض الذي طلب من والدته أن تغسله له قبل يوم. وهو يخطو خطواته الأخيرة في منزلهم التفت نحو أمه وقال لها، "ادعيلي يما".

والدة بلال التي كانت كلما خرج أولادها من المنزل تدعي الله أن يحميهم من شر اليهود، قالت لابنها هذه المرة أثناء خروجه "الله يسهل عليك يما" فقبّل يدها ونظر إليها ثم خرج من باب منزلهم حيث ينتظره بهاء وهو يدير رأسه للخلف ينظر إلى أمه.

ركب بلال الدراجة النارية، وتوجه بصحبة بهاء إلى هدفهما المنشود في مستوطنة "ارمون هنستيف" المقامة على أراضي جبل المكبر. أثناء الطريق، كان الحوار الذي دار بينهما عبارة عن الوصية الذي سيتركها كل منهما للآخر في حال بقي على قيد الحياة، وهي طلب الرحمة والسماح من الجميع، هذا ما رواه بلال لوالدته عند زيارتها له بعد اعتقاله وتحسن وضعه الصحي.

قال بلال لوالدته، إنه وصل مع بهاء إلى المكان في ساعات الظهيرة، وقبل أن ينفذا ما اتفقا عليه، دخلا إلى متجر لشراء الدخان وعلبة "اكس ال"، على الرغم من أنهما كانا صائمين، لكن لكي لا يثيرا الشك أثناء الانتظار، ثم وقف الشابان في إحدى المحطات وصعدا على متن الحافلة "78" التي سرعان ما امتلأت بالمستوطنين.

"مسدس وسكين واحد لا يكفي، نحتاج لسكينتين"، هذا ما قاله بلال لبهاء قبل أن يباشر بتنفيذ العملية، لكن بهاء أجابه بأنه كاف، ووقف هو في مقدمة الباص يحمل السكين، بينما وقف بلال في مؤخرة الباص يمسك سلاح "FN"، وبدء كل منهما في مهمته.

يضيف بلال لوالدته، أنه مع كل طعنة سكين وطلقة نار كانت مشاهد قتل الأطفال والشبان الفلسطينيين هي التي تتبادر لذهنه، وقد استمر كل منهما بعمله حتى نفذت ذخيرة بلال، فالتفت نحو بهاء فوجده يطعن وهو متعب وغير قادر على التنفس، والسبب أن بهاء كان مدخنا.

توجه بلال نحو بهاء وطلب منه أن يأخذ قسطا من الراحة، ليمسك هو بسكينه ويكمل العملية، وأثناء عملية الطعن انكسرت السكين وهو ما حال دون إكمال العملية، كل تلك الأحداث استمرت قبل وصول شرطة الاحتلال.

كان  الصديقان يقفان بجانب بعضهما عندما وصلت قوة من شرطة الاحتلال إلى المكان وبدأت بإطلاق النار نحوهما، ليرتقي بهاء شهيدا فيما أصيب بلال بجروح خطيرة.

da5a2f8be62b9e70b88e8e9acca66a7b_XL

بعد أن أخذت وسائل الإعلام تتداول مشاهد للعملية، كانت والدة بلال في السوق وشاهدت شريط الفيديو في إحدى المحلات ولمحت أن أحد المنفذين المصابين يرتدي "جاكيت أخضر" وهو ذاته الذي يملكه بلال، فأدركت أن ابنها هو منفذ العملية. لكن المفاجأة للعائلة كانت أن شريك بلال في العملية هو بهاء، كون العائلة تعلم بأن صداقة الشابين عادية جدا.

"ليتني أموت شهيدا"

وفي أول زيارة لها، جلست والدة بلال تنظر إلى ابنها الذي كان يتحدث بمعنويات عالية عن العملية ويقول، "قهروني وأنا علمت عليهم، بس أنا كنت ناوي الشهادة وهذا قدري".

"احذروا الموت الطبيعي ولا تموتوا إلا بين زخات الرصاص"، كان بلال مقتنعا بعبارة غسان كنفاني هذه، ويتمنى أن يموت شهيدا، تلك العبارات التي كان يرددها أمام والدته أحرقت قلبها على ولدها، لكنها رغم ذلك تفتخر به.

ولأن بلال يعرف معنى حياة الأسر، لم يكن يرغب بالعودة إلى السجن، ففي عام 2014 اعتقلته قوات الاحتلال بتهمة المشاركة في عرض عسكري لحركة حماس بجامعة القدس، ومن ضمن التهم أيضا جمع تبرعات للضفة الغربية وقطاع غزة، وحكم عليه إثر ذلك بالسجن لعام واحد.

عقب العملية؛ اقتحمت قوات الاحتلال منزل بلال ودمرت كل شيء فيه، واضطرت العائلة للخروج منه لأنه كان مستأجرا، وتقطن حاليا والدة بلال وشقيقه سلام في منزل صغير شبيه بـ"الكرفان"، أما والده وشقيقيه فيقطنون في الضفة لأنهم لا يملكون الهوية الزرقاء الخاصة بسكان القدس.

"والبادئ أظلم"

في الجسلة التي كان من المقرر أن ينطق القاضي الإسرائيلي خلالها بالحكم على بلال بالسجن المؤبد ثلاث مرات، رفض بلال أن يقف للقاضي غيرمعترف بشرعية المحكمة، وطلب من محاميه أن يحاور القاضي ويقول له على لسانه، "أنتم من بدأتم بالقتل ولسنا نحن، وإذا كان ذلك الكلام سيتسبب بزيادة الحكم لمؤبد رابع فلم يعد يهمني".

رفض بلال في تلك الجلسة الوقوف لقضاة المحكمة، وكان هذا الخبر محل اهتمام الصحافة الإسرائيلية التي ركزت على قول بلال للقاضي، "أنت وجميع دولتك لن تستطيعوا إجباري على الوقوف".

1457869996_news_thumb

تقول والدة بلال، "جلست في الصف الأول بالمحكمة، لكن القاضي طلب أن أعود إلى الخلف وأجلس مع عائلات المستوطنين القتلى وسائق الحافلة، وأثناء المحكمة بلال كان يضحك بصوت عال غير مكترث لأحد".

تأجيل النطق بالحكم كان بمثابة الفوز بجائزة ثمينة، فمرة أخرى سيرى بلال مدينة القدس من نافذة "البوسطة" ويتنسم هواها. يقول لوالدته، "أنا سعيد جدا بتأجيل المحكمة، حاولي جاهدة يا أمي أريد أن أرى القدس والمسجد الأقصى ولو من مكان ضيق، أنا مثل السمكة لا أستطيع الخروج من القدس، شيء ما يربطني ويشدني إليها".

من هو بلال أبو غانم؟!

بلال هو الابن الثالث في عائلته؛ يكبره ولدان وتصغره بنت، انتقل مع عائلته للعيش في مدينة القدس، فوالده من قضاء مدينة جنين لا يحمل الهوية الزرقاء، في حين أن أمه من جبل المكبر، ترعرع وكبر في تلك البلدة ودرس فيها حتى الصف التاسع ومن ثم أكمل "البجروت" في مدرسة صور باهر، وقرر أن يدرس تخصص الشريعة في جامعة القدس.

"بلال كان عصبيا وعنيدا جدا منذ صغره، حنون، متدين، مقبل على العمل التطوعي، شارك في مبادرة جبل المكبر لتحفيظ القرآن، كان يطمح لأن يصبح مؤذنا، فقد كان يحب أن يقضي معظم وقته بالمسجد، مميز بحبه للناس وحب الناس له، وكان يطلب دائما الرضى منا، وفي حال غضبنا منه يقبّل قدمينا طالبا السماح"، تقول والدته.

12895439_10207918954228340_1751555690_n

قبل العملية بعدة أيام؛ كان بلال ينوي سحب الفصل الدراسي لأن وضع العائلة في تلك الفترة كان صعبا، فوالده يعاني من أمراض بالرئة، وشقيقه الأكبر هو من يعيل العائلة، فقد قرر بلال أن يبحث عن عمل ليساعد شقيقه، ورغم محاولة بلال بإقناع والده بترك الجامعة فقط لمدة ستة أشهر إلا أنه رفض.

وقبل العملية بيوم، اتصل بلال في المساء على عماتهِ وتحدث معهن، وكذلك هاتف والده وطلب منه أن يرضى عنه وأن يسامحه، لأنه أراد أن يترك الجامعة وقال له، "اللي بدك إياه بصير خلص ما رح أترك الجامعة".