في أعقاب المجزرة الرهيبة التي ارتكبتها الأيدي الآثمة من قطعان مستوطني كريات أربع في الحرم الإبراهيمي الشريف قبل 22 عاما، عم السخط والغضب سكان النقب عامة، أُعلن عن الإضراب وجرت المسيرات الاحتجاجية ورُفعت الأعلام السوداء على أسطح المنازل وخرج الشباب إلى الشوارع وأشعلوا الإطارات وأغلقوا الشوارع بالحجارة والمتاريس.
ابتدأ تسلسل الأحداث والمواجهات مع قوات الشرطة وحرس الحدود في النقب على النحو التالي:
مسيرة عارمة لعرب النقب في اللقية
نظمت في اللقية مسيرة احتجاجية يوم السبت 26/شباط/1994 احتجاجا على المجزرة الرهيبة التي ارتكبها الوحش الفاشي غولدشتاين ضد جمهور المصلين في الحرم الإبراهيمي في الخليل. وجاءت هذه المسيرة في أعقاب اجتماع في رهط بمشاركة جميع الأطر السياسية والقوى الوطنية في النقب، حيث تقرر تنظيم مسيرة جماهيرية لجميع عرب النقب في قرية اللقية الصامدة. وشارك في المسيرة نحو ثلاثة آلاف شخص من كل القرى العربية في النقب، والتي انطلقت من مدخل القرية نحو ملعب اللقية الذي يبعد حوالي ثلاثة آلاف متر، وحمل المشاركون الأعلام السوداء والأعلام الفلسطينية والشعارات التي تستنكر وتشجب المجزرة الرهيبة والتي تطالب دولة إسرائيل بالانسحاب الكلي والسريع من المناطق المحتلة. وتقدم المسيرة مجموعة من الشبان الذين حملوا نعشاً، ورددوا الهتافات الوطنية التي عبروا فيها عن استيائهم وسخطهم وتضامنهم مع أهلنا الفلسطينيين في الخليل المحتلة، وكان من بين هؤلاء الشباب الثائر الشهيد محمد سليمان أبو جامع (يوماً واحداً قبل استشهاده)، وبعد أن وصلت الجموع إلى ملعب اللقية، صلوا صلاة الجنازة على شهدائنا الأبرار، ومن ثم استمع المشاركون إلى كلمات قصيرة من بعض المشاركين.
رهط تدفع ثمن الانتماء في مظاهرة عنيفة لم يشهدها النقب منذ سنوات عديدة
صباح يوم الأحد، السابع عشر من رمضان 1414 هـ الموافق 27/شباط/1994، تجاوباً وتضامناً مع بشاعة المجزرة في الحرم الإبراهيمي قرر مواطنو رهط مواصلة الإضراب، فأغلقت المدارس أبوابها وأغلقت جميع المتاجر والورشات ولم يخرج العمال إلى أماكن عملهم باستثناء المجلس المحلي. وفي الساعة الواحدة ظهراً خرج الشباب معلنين عن سخطهم وغضبهم فأشعلوا الإطارات، وأغلقت الشوارع الداخلية في البلدة، ووقعت صدامات ومواجهات بين عناصر الشرطة والشبان، حيث استمرت ساعات طويلة أمطرت فيها السماء حجارة على عناصر الشرطة من قبل الشباب الثائر مطالبين إخراجهم من البلدة، ومن ثم بدأت الشرطة باستفزاز الشباب وحاولت تفريقهم بالقوة، وفي أعقاب ذلك هرعت قوات كبيرة من الشرطة وحرس الحدود إلى مركز البلد (محطة وقود باز)، وفي هذه الأثناء زاد عدد الشباب إلى المئات الغفيرة، ومن ثم بدأت المواجهات العنيفة بين الشباب من جهة وحرس الحدود من جهة أخرى حيث قامت الشرطة بإطلاق الرصاص الحي وقنابل الغاز المسيل للدموع بكميات كبيرة جداً تجاه الشبان، وكان ذلك تمام الساعة الرابعة عصراً.
وفي الساعة 16:21 تماماً أطلق أحد القناصة من عناصر حرس الحدود النار باتجاه الشاب (الشهيد) محمد سليمان أبو جامع (22 عاماً)، لتخترق الرصاصة القاتلة فمه وتخرج من رأسه حتى سالت دماؤه الزكية على الأرض لتلتحق روحه بأرواح شهداء مجزرة الحرم الإبراهيمي. وأفاد شهود عيان أن لحظة وقوع الشهيد على الأرض تصعب على الشبان الوصول إليه، من جراء وابل العيارات النارية التي قام بإطلاقها أفراد الشرطة وحرس الحدود، وبعد حوالي ثلاث دقائق هجم الشبان على الشهيد ونقلوه فورا إلى عيادة صندوق المرضى في البلدة وهناك قرر الأطباء استشهاده. كما وأفاد شهود عيان أن جندي حرس الحدود الذي أطلق النار على الشهيد معروف لهم ورأوه وهو يصوّب بندقيته باتجاههم.
وفور سماع خبر استشهاد الشاب محمد أبو جامع حدثت مواجهات عنيفة بين عناصر الشرطة والمتظاهرين لم يُشهد لها مثيل من قبل، وأصيب عشرات الأشخاص حيث نقل بعضهم إلى مستشفى سوروكا والبعض الآخر إلى عيادات خاصة في البلدة. وأفاد شهود عيان أنه قد أصيب أيضا من جراء الرصاصات التي أطلقها قناصة حرس الحدود الشاب علي العبيات الذي أصيب بعيار ناري في قدمه، والشاب ذياب مبارك الخمايسي الذي أصيب بعيار ناري في رأسه، وقد نجا بأعجوبة من الموت.
واستمرت المصادمات بين أفراد الشرطة والشبان حتى منتصف الليل، حيث انقطع تيار الكهرباء عن البلدة، والشرطة من جهتها لم تستطع مواجهة الشبان بعد انقطاع التيار الكهربائي، فطلبت النجدة واستدعت طائرتين عموديتين وأعداداً من الكلاب لتفريق المتظاهرين. وقد كان رجال الشرطة معززين بما يسمى "الوحدة الخاصة لمكافحة الإرهاب"، حيث تلقوا أمراً بمهاجمة المتظاهرين الذين أشعلوا الشوارع الرئيسية والقريبة من مركز البلدة. وأطلقوا المئات من قنابل الغاز المسيلة للدموع حتى تحولت بلدة رهط التي كان يسكنها آنذاك نحو 27 ألف مواطن، إلى غيمة من الغاز المسيل للدموع. وفي الساعة الثامنة مساءً كانت قمة المصادمات حين انفجرت أنبوبة غاز بجوار نقطة الشرطة حيث كانت آنذاك في مركز المدينة. ويذكر أنه قبل الانفجار بلحظات عم الهدوء الشامل، ولم يعرف رجال الشرطة السبب، فقالوا أنهم هدأوا، ولكن الانفجار جاء وعلت شعلة النار إلى مسافة خمسة أمتار حيث أحدثت دويا هائلا اهتزت له البلدة. ولم يبق من محطة "التوتو" ( اليانصيب الرياضي) المجاورة لمركز الشرطة إلا أشلاءً.
وفي الساعة الحادية عشرة ليلاً وصل مدير عام الشرطة، المفتش رافي بيلد، حيث اجتمع مع رئيس المجلس ونوابه ووجهاء من رهط، واتفق على إخراج الشرطة من البلدة وإبقاء فقط أفراد الشرطة الدائمين في المحطة. وفي قرى اللقية، حورة، كسيفة، عرعرة النقب وتل السبع وقعت مواجهات عنيفة مع أفراد الشرطة، حيث أصيب واعتقل العديد من الشبان في أعقاب هذه الصدامات.
الآلاف يشيّعون جثمان الشهيد محمد أبو جامع إلى مثواه الأخير
تسلل خبر استشهاد محمد أبو جامع بعد عصر يوم الأحد من شارع إلى شارع، ومن بيت إلى بيت. وفي لحظات معدودة خيّم الحزن والأسى على أجواء هذه البلدة فأرخى الليل سدوله العميقة، فجاء البكاء وانهمرت الدموع، وتفجر الغضب فخرجت الجماهير إلى الشوارع تعبّر عن حزنها وغضبها، وخيّم على هذا البلد ليلٌ لا يُنسى. صرخت فيه النساء وبكت فيه الأطفال، وحزنت فيه رجال، وكست وجوه الشباب ملامح الغضب الدفين.
في ذلك الليل لم تنم عيون كثيرة، بقيت ساهرة غاضبة حزينة، حتى شروق شمس اليوم التالي، حتى أصبح خبر الاستشهاد يعلمه القاصي والداني. فتوافدت الجماهير العربية الفلسطينية من كل حدب وصوب إلى بيت أهل الشهيد، معزية بالمصاب الأليم، مهنئة بالاستشهاد المشرف. توافد على بيت العزاء الآلاف من داخل رهط وخارجها، وكونوا سلسلة بشرية لم يشهد لها النقب مثيلاً في تاريخه.
كانت الجماهير تنتظر بحزن وأسى، بعضهم بقرب بيت العزاء وبعضهم في داخله، وبعضهم على شوارع المدينة وآخرون لم يفرغوا غضبهم مستمرين في التعبير عن هذا الغضب بإغلاق الشوارع وحرق الإطارات التي غطت كثافة دخانها سماء رهط.
وفي الساعة الثانية عشرة ظهرا زاد الغضب والبكاء وارتفعت الأصوات حين بدأ موكب الجنازة يسير خطواته الأولى، حاملاً جثمان الشهيد الطاهر من بيته إلى مقبرة البلدة الغربية.
الآلاف شاركوا في تشييع الجثمان حيث رفرفت فوق رؤوسهم الأعلام السوداء والأعلام الفلسطينية للمرة الأولى في النقب. النساء التفحن بالسواد وهن تحملن اللافتات التي تتهم حكومة رابين بالمجزرة وقتل شهيد رهط.
في لحظات أصبحت السلسلة البشرية الغاضبة أولها في مدخل البلدة وآخرها في حي الشهيد
لف الشهيد محمد بالعلم الفلسطيني، وأحيط بباقات من الورود. عصب رأسه بحطة عربية ورش جسده الطاهر بالعطور، عطور قد فاحت لتلقى أنوف أكثر من 15 ألف من المشاركين. صلت الألوف عليه صلاة الميت، ومن ثم ارتفع إلى هضبة تطل عللى بلدة رهط، مسقط رأسه. وقام الشيخ رائد صلاح، رئيس بلدية أم الفحم (آنذاك)، بتأبين الشهيد قائلا: " أنه يشفع لسبعين من أهله يوم الموقف العظيم"، وتمنى أن يشفع له.. و "إنه لعرس لنا جميعاً ونحن نودع ونشيّع شهيد رهط وشهيد جميع الشعب الفلسطيني". وبعدها بدأ الجمهور، الذين شاركهم النائبان طلب الصانع وهاشم محاميد، بمواراة جسد محمد أبو جامع الطاهر التراب.
تفرق الجمع بدون مشاكل، بعد أن كان قد اتفق الوجهاء مع الجنرال رافي بيلد، المفتش العام للشرطة، على عدم تواجد رجاله في منطقة رهط ساعة الخروج بموكب الجنازة. الشارع بين بيت كاما ومشمار هنيجف، أغلق لمدة أربع ساعات- منذ خروج موكب الجنازة نحو الساعة الثانية عشرة ظهراً وحتى رجوع المسيرة.
وفي يومي الإثنين والثلاثاء قدم الرئيس الراحل ياسر عرفات التعازي، في حديث مع والد الشهيد، لأهل رهط خاصة وأهل النقب عامة، وذلك باسمه واسم القادة الفلسطينية.
ولد الشهيد قبل 22 عاما (من يوم استشهاده)، ابن بكر بعد ثلاث بنات لسليمان أبو جامع. وقد تربى وترعرع في رهط. أحب كرة القدم، ويقول أحد أقربائه أنه توجه برسالة إلى رئيس المجلس المحلي، طلال القريناوي، طالبه فيها بإقامة ملعب في الحارة. تزوج محمد قبل عدة أسابيع من استشهاده (14/كانون ثاني/1994)، كان يعمل في مطعم في تل أبيب، وقبل أن يخرج للعمل قال لوالدته: "أنه سيغيب طويلا"، وسلم والدته خاتم الزواج وقال لها أن تحفظه له لأنه يخاف أن ينكسر. ومن ثم توجه إلى مركز البلدة، وانضم إليه العديد من الشبان في ساحة الغضب "الانتفاضة"، وكأن تلك الروح المتجسدة أعطته تلك العلامة أنه لن يعود حياً إلى أهل بيته.
النصب التذكاري الذي لم يتم بناؤه
بالرغم من مرور عشرين عام على سقوط الشهيد محمد سليمان أبو جامع، ابن مدينة رهط، إلا أن النصب التذكاري ما زال حبرا على ورق. فمتى ستنتهي المعاناة؟
إن عدم إنجاز نصب تذكاري لشهيد رهط ولشهيد النقب إنما هو مس عميق بزخم الحدث وكرامة الشهداء الذين استشهدوا جراء المجزرة البشعة التي قام بها السفاح المجرم غولدشتاين.
أما كفانا تجهيل وتهويد وتشريد...!؟ أما حان الوقت لنصب تذكاري شامخ يرسخ رباطنا بتارخينا وشعبنا...!؟
هل عقدنا صلحة مع أتباع بن غوريون مثلما حدث وفعل الأخير "يوما ما" في تلك الصلحة المعروفة، كي ينسى الشعب الجريمة...!؟