يومان اثنان وينتهي العام 2015، ويحلّ عام جديد .. التشاؤم يسيطر على المشهد الفلسطيني بالرغم من أنّ هذا العام شَهِدَ مزيدًا من الاعترافات الدوليّة بالدولة الفلسطينية، وتعاظم حركة التضامن مع القضية. كما شهد الانضمام الفلسطيني إلى محكمة الجنايات الدولية، واتخاذ المجلس المركزي قرارات مهمة تستهدف تحديد العلاقة مع الاحتلال ووقف التنسيق الأمني، وأكدت اللجنة التنفيذية على هذه القرارات.
لا يتفاءل الفلسطينيون بالرغم مما تقدم، لأنهم - كما تشير الاستطلاعات - لا يصدقون قيادتهم، بدليل عدم تقديم دعاوى لمحكمة الجنايات، فقد اقتصر النشاط الفلسطيني على تقديم الشكاوى والملفات ولم يتم التعامل مع هذا الموضوع بالجدية المطلوبة، وباعتباره فقط مسألة قانونية وليست سياسية تستوجب تجنيد كل الطاقات والإمكانيات والأشقاء والحلفاء وحركة التضامن الدولية حتى تضغط على المحكمة وتدفعها للتحرك. كما وجدنا القيادة الفلسطينية لا تزال تتحدث عن دراسة كيفية وضع خطة لتطبيق القرارات سالفة الذكر، وتهربت من ذلك من خلال تفويض الرئيس باختيار التوقيت المناسب لتطبيقها، مع أن من الطبيعي أن القرارات تدرس من كل جوانبها، بما في ذلك الوقت المناسب، قبل اتخاذها.
الحقيقة، أن الفلسطينيين أفقدتهم قيادتهم معظم عناصر القوة التي يمتلكونها منذ توقيع "اتفاق أوسلو"، حيث تمّ التخلي عن المقاومة قبل تحقيق أهدافها، وعن تمثيل شعبنا في 48 والشتات، وأقيمت السلطة مقيدة بقيود غليظة، سياسية واقتصادية وأمنية، ووضعت المنظمة نفسها من دون أي داعٍ تحت رحمة الاحتلال عندما نقلت جل مؤسساتها إلى فلسطين المحتلة، ما جعل أي حديث في ظل هذا الوضع عن تغيير العلاقة مع الاحتلال ووقف التسيق الأمني ليس سوى أضغاث أحلام. فالوضع الفلسطيني لا يقوى في وضعه الحالي على تحمل الثمن الباهظ المترتب على تنفيذ القرارات، لذا يؤجل تنفيذها شهرًا تلو آخر، والأصح عامًا وراء آخر، لأنه مطروح منذ سنوات، وسيبقى الوضع على ما هو عليه ما لم تطرأ تطورات عاصفة تدخل عناصر جديدة على اللعبة السائرة تحت مسمى عملية سياسية فقدت منذ زمن بعيد أي ثقة بها، حتى من معظم المؤمنين بها والمراهنين عليها.
فما دامت السلطة قائمة كما أنشئت بالرغم من أنها أصبحت "بلا سلطة" كما قالها الرئيس وكما يكررها صائب عريقات باستمرار، ومن دون بناء بديل أو بدائل منها؛ سيبقى الأمر على حاله، وربما يسوء أكثر. فالكارثة لا تكمن في أوسلو وغيره من الإستراتيجيات المعتمدة التي لم تحقق الدولة ولا العودة، وإنما تآكلت الأرض والحقوق والمؤسسات والشرعيات، وأما القضية فتضيع ومعرضة للتصفية في ظل إحياء هدف إقامة "إسرائيل" الكبرى وتديين الصراع.
ما يزيد من عدم الثقة بالقيادة والفصائل وبقايا المؤسسات أنها تتصرف وكأنها في وضع غير طارئ، فكل شيء يسير وفق المعتاد بالرغم من عمليات الإعدام بدم بارد، واحتجاز جثامين الشهداء، وهدم المنازل، واقتحام مختلف المناطق، بما فيها بيت الرئيس، وتوسيع الاستيطان، ونفض "إسرائيل" علانية ليدها من إقامة دولة فلسطينية، بل طلب نتنياهو من كيري في اجتماعه الأخير ضم "الكتل الاستيطانية" لـ"إسرائيل". كما بحث في أحد اجتماعات الحكومة سحب الهوية من حوالي 80 – 220 ألف مقدسي، وتتسع المطالبة الإسرائيلية بضم مناطق (ج).
ومع ذلك، الشغل الشاغل للقيادات والنخب الفلسطينية هو الحفاظ على السلطتين في الضفة وغزة، بالرغم من الوضع الكارثي هنا وهناك في ظل استمرار الانقسام وتعمّقه أفقيًا وعموديَا، بينما تبقى حكومة الوفاق بالاسم، ويتأكد ذلك بتعديلها المتكرر من دون وفاق. ويظهر الانشغال في الاهتمام البالغ بالرواتب والترقيات والامتيازات والمستشارين والسفرات والوكالات والترتيبات للهيئات القيادية في "فتح" والمنظمة، وفي الاستعداد لمعركة خلافة الرئيس قربت أو بعدت. كما تظهر فوبيا دحلان وحلفائه المفترضين من خلال استمرار ملاحقة المؤسسات والشركات والأشخاص، بما في ذلك إقحام مؤسسة محمود درويش التي من المفترض أنها تبقى في مقام رفيع فوق الحسابات والخلافات والتصفيات السياسية والشخصية.
جرّاء كل ما سبق وغيره الكثير مما لا يتسع له هذا المقال، وجدنا الموجة الانتفاضية التي جاءت بشكل خاص يتناسب مع الوحشية والجنون الإسرائيلي ومع عدم وجود قيادة فاعلة ومقاومة جدية، فهي اندلعت واستمرت للشهر الثالث على التوالي، واتخذت الشكل الذي سارت عليه، وظلت يتيمة بلا أب ولا قيادة ولا تنظيم ومن دون عمق شعبي، بالرغم من أنها تطرق جدران الخزان وتطرح أسئلة المشروع الوطني، وتوفر فرصة لتغيير المسار وإعادة الصراع إلى طبيعته الأصلية وإطلاق مقاومة فعّالة، في ظل غياب القيادة والفصائل التي تحاول كل منها توظيفها لصالحها من جهة، وخشيتها من دفع ثمن تبنيها من جهة أخرى، لذا نلاحظ أنها اكتفت بتبريرها وتأييدها وكأنها ليست مطالبة بقيادتها وتوجيهها في الاتجاه المطلوب.
نقطة الانطلاق للخروج من الكارثة التي لم تحل فصولها الأسوأ بعد؛ تتمثل باختيار الهدف النهائي الذي نريد تحقيقه، وهل هو الحفاظ على بقاء السلطة أو الرجوع لهدف "التحرير والعودة" الذي ابتدأنا به وتراجعنا عنه، أم حل الدولتين الذي تلاشى، أم حل الدولة الواحدة الذي ينطبق عليه القول "اللي مش قادر على إقامة دولة على 22% من فلسطين ليس بمقدوره أن يقفز قفزة واحدة ليأخذ كل فلسطين"، متناسيًا أن الذي حال دون قيام الدولة الفلسطينية سيحول دون قيام الدولة الواحدة؟
الخطر الذي يواجهنا الآن أن "إسرائيل" تتحول أكثر وأكثر إلى دولة "يهودية"، بل وأسوا من ذلك إلى دولة للشعب "اليهودي"، وتستمر في كونها تجسيدًا لمشروع استعماري استيطاني عنصري، ما يجعل المطروح حاليًا ليس الدولة الواحدة وإنما خطر إقامة "إسرائيل الكاملة" وتجميع الفلسطينيين في معازل في إطار حكم ذاتي تمهيدًا لتهجيرهم في أي فرصة سانحة. من يريد التحرير أو الدولة على حدود 67 أو الدولة الواحدة، عليه أن يعرف أن الأولوية لتغيير الاختلال الفادح في ميزان القوى، ومن دون ذلك لا يمكن تحقيق أي شيء.
لماذا تستمر منظمة التحرير كما هي من دون إعادة بناء لتستوعب الحقائق السياسية الجديدة؟ ولماذا تبقى مؤسساتها التي من المفترض أنها تمثل الشعب الفلسطيني في كل مكان تحت الاحتلال؟ ولماذا تبقى السلطة التي جاءت كنتيجة لأوسلو كما هي بالرغم من "إسرائيل" تجاوزت منذ زمن بعيد لالتزاماتها بهذا الاتفاق، فإما تغيير شكل السلطة ووظائفها والتزاماتها بشكل تدريجي حتى تتوفر مقومات ومتطلبات البديل، وتصبح سلطة صمود ومقاومة شعبية تتبنى المقاطعة، وتعمل من أجل التخلص من أوسلو بالتدريج، ولكن ضمن رؤية تضمن الرواية والحقوق التاريخية، واستمرار الكفاح لتحقيق الهدف النهائي. فتحقيق الممكن الضروري لا يعني النهاية وكل شيء، لذا في نفس الوقت الذي تتعزز فيه عوامل الصمود، وإحباط المشاريع المشروع الصهيونية، وتقليل الأضرار والمخاسر؛ يتم العمل بشكل متوازٍ لإعادة بناء الحركة الوطنية والتمثيل والمؤسسات الفلسطينية بحيث تضم مختلف ألوان الطيف، على أساس الاتفاق على عقد اجتماعي جديد. قد يؤدي ذلك إلى قيام "إسرائيل" بحل السلطة، وهذا أفضل من انهيارها البطيء الحاصل الآن، لأن الحل يمكن أن تتم المقايضة عليه، بينما الانهيار سيكون بلا ثمن إلا إذا جاء ضمن رؤية جديدة وبناء بديل متكامل.
شعبنا قادر على العطاء والإبداع باستمرار، ومصمم على الدفاع عن نفسه وتحقيق قضيته العادلة المتفوقة أخلاقيًا، وهو أبقى قضيته حية بالرغم من الأهوال التي تعرّض لها وبَقي يقاوم، ونظّم حركة مقاطعة تملك آفاقًا واسعة، وتمسّك بحق اللاجئين في العودة، وأحدث نهوضًا ثقافيًا وإنجازات في مختلف الميادين والبلدان، إضافة إلى وجود حركة تضامن دولي واسعة مع قضيته بالرغم مما يجري في المنطقة العربية، مما يضعف العمق العربي الضروري جدًا لها، ولكن الغائب الأكبر القيادة والقوى الفاعلة والنخب التي عليها أن تكون بمستوى الشعب وتضحياته وبطولاته، وقادرة على مواجهة التحديات والمخاطر والاستفادة من الفرص.
لا يوجد أي حل قريب يلوح في الأفق، ويجب ألا نقيد أنفسنا بخيار واحد، فلا بد من فتح الخيارات كلها، لننتقل من خيار إلى آخر وفق الحاجة، ولكي يساعد طرح خيار على تحقيق خيارات أخرى.