إلى روح الشهيد مهند وكل الشهداء الذين ساروا على دربه
تُسيّرنا -أغلبنا- الحياة كما تشاء، وتسحبنا أمواجها نحو أفعال وأشياء يومية عادية، نذعن لها وننقاد، ويوماً ما، سوف تلقي بنا في إحدى حفرها المظلمة. قد نموت -على حين غرّة- بحادث سير، أو بمرض غادر، أو ربما، تتمهل قليلاً، فتأخذنا إلى شيخوخة كئيبة، يغلّفها الضعف والعجز والمرض وهموم النفس وألم المراجعات "كيف ذهب العمر كله بغمضة عين"، "يا للحياة الغادرة، كيف انسلّت من بين أيدينا دون أن ننتبه"، "أين هي أيام العمر وسنواته"، حينها سيقف اللامعنى مثل غولٍ أمامنا، سيعذبنا سؤال لا بد منه "ماذا فعلنا؟" وستنتهي قصة وجودنا مثل ورقة شجرٍ تسقط في خريف.
أما هو، فقد قرّر أن يعتلي السفينة، سفينة الحياة، وأن يقود القدر بيديه، قرّر بينه وبين نفسه بأنه سيّد مصيره، سيفعل ما يريده هو، وبالطريقة التي يريدها هو، وفي المكان الذي يختاره هو. وأي مكان أحق وأعدل وأشدّ مفارقة من درب آلام المسيح. لقد عرف جيداً ماذا سيفعل، ولمن سيفعل... لِ فلسطين.
بهدوء وبتوحد راح يفكر، وبصمت كان يخطط، بلطف وهدوء وبحزن خفيّ ودّع من يحبّ، ثم راح يرتب يوماً من أيام التاريخ العظام، يوماً من أيام فلسطين، يوماً سيسمّى بدءُ ثورة، يوماً سيكتب له، بدمه.
بشموخ كان يسير في الطرقات المحتلة ( للمرة الأخيرة)، عالياً رأسه في السماء، نابضا قلبه بالعشق والثورة، ورجلاه، كانتا تحفران في الأرض، وتحدّدان معالم طريقٍ، يوصِلُ في نهايته إلى النصر، ويجلّل بالعزة كل من سيسير فيه من بعده.
صغيراً كان في العمر، بريئاً في التجربة، نقياً وطاهراً في العشق، مُحقّاً في الغضب، كبيراً في المهمة، واثقاً في الخطى. لم يزل بعد فتىً، لكنّه ملك من قوة النفس وصلابة القرار ما يثير "الحسد" في النفوس، كان أكبر من الحياة نفسها، حين وضعها على راحتيه، وقدمها في سبيل أعدل قضية على الإطلاق.
دونما تردّدٍ يقبل، يرفع يده، وفي قلب الظلم يغرس غضبه. يستحيل لهذه الروح البريئة النقيّة أن يروقها منظر الدماء، لكنّ هذه اليد، التي ارتفعت، كانت تدفعها قوة هائلة ممتدّة ثمانية وستون عاماً في الزمن، محمّلة بصورٍ مريعة تتلاحق أمام عينيه: فلسطين تغتصب ظلماً وقهراً..أهلها يقتلون..يشرّدون..يذوقون ذل وعذاب اللجوء..غزة تحاصر..تقصف..يحرق أطفالها بالفسفور الأبيض..يُعدم محمد الدرة..يعذّب ويقتل محمد أبو خضير..تحرق عائلة دوابشة وهم أحياء..تُهان وتؤذى نساء الأقصى..ثمّ يمرُّ طيف الشهيد ضياء التلاحمة.
تسقط اليد وينام الشهيد.
نذهب نحن للبحث في صوره السابقة، ننظر إليها، نتأمل ملامح وجهه. عينان ثاقبتان صارمتان حازمتان، تتسعان لوطن، وفم يبخل بابتسامة، ربما لم يحن أوانها بعد، جسد صغير، يوقظ في داخلنا أسئلة صعبة، كيف لجسد ما زال بعد صغيرا ونحيلا أن يكون له هذا العزم وهذا الثبات، ويصعب علينا أن نحدّد: هل هذا الذي نقرؤه في ملامحه هو حقاً ما تُفصح عنه تلك الملامح، أم أن إحساس البطولة والتضحية المتولّد في داخلنا هو من يسبغ عليها تلك المعاني.
ينام الشهيد..
ينام الشهيد.. ونقطف نحن -على خجلٍ من غيابه- ثمار الفخر بما صنع.
ينام الشهيد.. ويتركنا في حيرة: من أين يأتي كل هذا الجمال وكل هذه الوداعة لترتاح في قسمات وجهه النائم.
ينام الشهيد.. ويغمرنا الإحساس شبه اليقينيّ، بأنه لا يمكن أن يكون غافلاً عمّا يحدث بعد استشهاده، ربما نرقبُ نحن المشهد الحاضر الآن، لكن من يدري، لعلّه هناك في الأعالي، يُطلّ من إحدى النجمات، يبتسم، ويرى المشهد إلى نهاياته.
ينام الشهيد.. ويعذبنا فراقه، فغياب الأقوياء يزيد من برد الدنيا، ويعمّق إحساسنا بالوحدة.
ينام الشهيد.. ونبدأ نحن في السؤال عن معنى الحياة، ومعنى الموت.
لنتذكّر دائماً وأبداً..
بأنّ الحبر يستحي من الدم
وأنّ الكلمات تخشى أن تكون أقلّ من أن تليق به
وأنّنا مهما قلنا سيبقى هو وحده الشمس والضوء والمعنى والكلمة
وأنّ ما قيل الآن يجري في قلوب الملايين