قبل نحو خمس سنوات، دخلنا نقاشًا وطنيًا سياسيًا خلال محاضرة جامعية. توصّل الأستاذ الجامعي في نهايته إلى نتيجة سوداويّة مفادها أننا نحن "جيل أوسلو" لا خير فينا، وسنكون سببًا في ضياع ما تبقّى من القضية؛ فنحن لم نشهد الانتفاضة الأولى، وكان "عظمُنا لا يزال طريًا" في الانتفاضة الثانية، فلا "يُشدُ بنا الظهر" كما يقول.
منذُ أسبوع وأنا أتابع بنهم كبير أخبار هذه الملحمة أو الهبّة أو المواجهات أو حتّى الانتفاضة، سمّها ما شئت، أو اتركها دون تسمية فلا يهم. المهم واللافت جدًا أن من يحرّك الجمر الكامن تحت الرماد، هم فتية تبدأ أعمار غالبيتهم من سنِّ 13 عامًا.. إنّهم جيل "ما بعد بعد أوسلو".
المواجهات الحاليّة التي يقودها الفتية صغار السن، الكبار بأفعالهم، افتتحها الشهيد مهنّد الحلبي (19 عامًا)، بعملية الطعن النوعيّة التي نفّذها في القدس المحتلة. عن هذه المواجهة يقول أحد الزملاء الصحفيين الذين تُحتِّم عليهم طبيعة عملهم التواجد المستمر في ميدان المواجهة، أنّه لم يسبق أن شاهد اندفاعًا نحو الموت، كهذا الذي يُقدم عليه الشبّان هذه المرّة خلال المواجهات المندلعة في الضفة منذ أسبوع، وارتقى خلالها 11 شهيدًا منذ بداية أكتوبر، ولم يتجاوز سنُّ أكبرهم 22 عامًا.
أيُّ معادلة تستطيع أن تقدّم شرحًا عن أفعال هؤلاء الشبّان؟! أحدهم اعتقله الجنود وظل متشبثًا بحجره في يده، وآخر ابتسامته تغيظ من اعتقلوه. وثانٍ يحاول الجيب العسكريّ دهسه فيخرج من تحته بكل عنفوان عائدًا إلى الميدان. وثالثٌ يعود من المواجهات فرِحًا بالدرع الذي اغتنمه من أحد الجنود خلال المواجهة.
هُنا لا تهمهم ألاعيب السياسة والسياسيين. يعرفون أنّ هناك وطنًا محتلًا، وأن المُحتلّ تجاوز كل خطوطهم الحمراء. يعرفون أن لا سبيل مع هذا العدوّ بسراب السلام. كل ما يحتاجونه: سواعد قوية، وحجارة متفاوتة الأحجام. وسكين، وبالطبع لثام. بتلك الأشياء الأربعة، يخلقون معادلة جديدة أربكت عدوهم إلى حد أن تتلقى شرطته في يوم واحد نحو 25 ألف مكالمة هاتفيّة تبلّغ عن الاشتباه بوجود فلسطيني يحمل سكينًا!.
هنا في الميدان، الانقسام بكل إفرازاته خلف ظهورهم، تجدُ فتاةً جامعيّة تُحضر زجاجة فارغة، يملؤها شابٌ يرتدي عصبة خضراء بمادة سريعة الاشتعال، فيما يأتي ملثّم بالكوفية ليشعل الفتيل. الكُل هُنا يُكمّل الكُل. يُفشلون كل جهود وأنشطة وأموال المؤسسات التي ما فتئت تحاول كيّ وعيّ هذا الجيل الجديد، نحو قضيته ووطنه وشغله بأمور جانبية.
ثمّة محاولات لتفسير هذه الجرأة والجسارة لدى الشبّان: المواجهة الأخيرة التي خاضتها المقاومة الفلسطينية في غزة، أوجدت لهؤلاء الفتية الذين ولدوا في أعوام 95 وما بعدها، نموذجًا لمقاومٍ لا يعرف المستحيل؛ يحفر نفقًا لعدة كيلومترات ليصل موقع "ناحال عوز" ويخوض فيه اشتباكًا أسطوريًا ويعود إلى قاعدته بعد أن أجهز على الجنود، ومقاتلًا آخر يغوص في البحر ويصل الشاطئ الأخر عند قاعدة زيكيم، مُربكًا كل الحسابات، لدى العدو والصديق!.
وعلى الجانب الآخر: القدس والأقصى، وما يفعله الاحتلال بالمرابطين والمرابطات، وحرق المستوطنين الطفل دوابشة وعائلته. ويرى الفتية الطريق المسدود أمام القيادة السياسية التي تستجدي الدولة على أعتاب الأمم المتحدة، هذا الانسداد يخلق جبالًا من "اللّا أمل" أمامهم.
هل الحالة الآنية هي فعلًا انتفاضة، أم أنّها تمهّد لها، أم أنها زوبعة لمدة أيام وتنطفئ؟! قد تكون فعلًا كما سبق، لكّن المؤكد أن هذه الحالة التي نعيشها، والدم المبذول من هؤلاء الشبّان الذين جاؤوا بعد "أوسلو"، تربك الاحتلال وتجعله يعيد حساباته.
هي حالة طبيعية إذن، هكذا يقول تاريخ ثورتنا الفلسطينية، بين كل هبّة وأخرى، ثمّة استراحة محارب، فهل انتهت استراحة المحارب فعلًا؟ وتصدّر المشهد فتية "يشتد عظمهم"، سؤال يُجيب عليه "جيل ما بعد بعد أوسلو" الذين يرسمون ملامح المرحلة بحجارتهم.