كتب: أحمد يوسف
إن هناك الكثير من الكلام يتردد حول الهدف من انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني، بعضه للتسويق والتبرير، ولكن أغلبه هو للتشهير والتشكيك في الدوافع والنيَّات!!.
إنَّ ما فهمناه من جهة التصريحات الصادرة عن الرئاسة الفلسطينية أن هناك حاجة ماسة لتجديد شبابية اللجنة التنفيذية؛ لأن هناك من بين الأعضاء من ينطبق عليهم مقولة "لقد هرمنَّا"، حيث غدت أعمار الكثيرين منهم وظروفهم الصحية تستدعي البقاء أطول وقتٍ ممكن في غرف العناية المركزة، والتعاقد – للطوارئ - مع "سفريات الدار الآخرة"، هكذا أخبرنا النبي(ص):"أعمارُ أمتي ما بين الستين والسبعين".
بصراحة؛ إن الكل الوطني والإسلامي كان - دائماً - يطالب بضرورة انعقاد المجلس الوطني للعديد من الدواعي والأسباب، والتي هي بالتأكيد كانت أكثر وجاهة وبواعثها أكثر قناعة مما تفضلت به جهة الرئاسة الفلسطينية، ومع ذلك لم يحرك أحد ساكناً، بالرغم من حجم النداءات والمطالبات المشروعة من بعض الفصائل الوازنة في الساحة الفلسطينية.
كانت هناك الأحداث الدامية في يونيه 2007م، والتي انفرط معها عقد الوطن، وتشرذمت مكوناته السياسية، وأصبحنا حكومتين بلا سيادة على شعب محتل، وتعطل المجلس التشريعي عملياً، وصارت حياتنا السياسية تحكمها المراسيم الرئاسية، التي يجري تنفيذها في الضفة الغربية دون أن يكون لها أيُّ قيمة في قطاع غزة، وتعرضنا لحروب عدوانية ثلاثة؛ كانت مدمرة، وسقط فيها الآلاف من الشهداء والجرحى، ومع ذلك لم تتم الدعوة للمجلس الوطني، رغم كارثية أوضاعنا السياسية في الوطن والشتات.
يا سيادة الرئيس.. إن السؤال الذي يردده الجميع اليوم، هو: لماذا الدعوة الآن، وهناك قضايا أخرى يستلزم الشرخ القائم تناولها قبل هذا اللقاء؟! وإذا كان هناك ضرورة ملحة – يا سيادة الرئيس - لانعقاد المجلس الوطني، ألم يكن من الأفضل أن يجتمع الإطار القيادي المؤقت للاتفاق على الزمان والمكان، وأجندة ما سوف يتناوله اللقاء من موضوعات وكلام؟.
منذ عام 1996م لم ينعقد المجلس الوطني الفلسطيني، لاعتبارات لا يعلمها من بني البشر إلا الرئيس الراحل ياسر عرفات (رحمه الله) ورئيسنا الحالي الأخ محمود عباس، وإن كان مستودع الأسرار لا يخلو من بعض المطلعين على بواطن الأمور والعارفين بالأحوال.
بحسب الأعراف والقوانين، فإن من المفترض أن يتم عقد المجلس الوطني كل أربع سنوات، ولكن تعطيل لقاءات المجلس لأكثر من عقد ونصف العقد من الزمان ليس لها ما يبررها، إلا إذا كان القائمون على رأس الأمر وفي سدَّة الحكم، وغيرهم من سدنة المعبد لا يريدون لأحدٍ أن يحاسبهم، ويهدد مستقبل واقع التفرد القائم؛ باعتبار المكانة، حيث إن أحدهم (لا يُسئل عما يفعل)، الأمر الذي كرَّس حالة من التسلط لا تخطئها عين الشارع الفلسطيني.
جدلية الرحيل: النهج والأثر
من المعروف في الديمقراطيات المعاصرة أن كل رئيس تنتهي ولايته يتم الترتيب لرحيل آمن له، بحيث يحفظ هيبته وجلال قدره ومكانته، ويبدأ الرئيس - بالطبع - في وضع اللمسات الأولى لتظهير إنجازاته "ما قدَّم وأخر"، من خلال بناء مكتبة ضخمة في موطن نشأته أو أي مكان آخر يقوم باختياره، بهدف الاحتفاظ بكل سجلات حياته المعيشية، ومسيرته المجتمعية، وكل متعلقات فترة الحكم والسياسة، كذاكرة تتابعها الأجيال، وتتعلم منها الدروس والعبر من ناحية، وتدرك من خلالها قيمة الأثر الذي تركه الزعيم من ناحية أخرى.
اليوم يتحدث البعض بأن الأخ الرئيس أبو مازن قد عقد العزم على الرحيل عن مشهد الحكم والسياسة، وقد ذكر ذلك لعدة جهات عربية وغربية، وإن هذه الإجراءات التي يقوم بها إنما هي لترتيب البيت الفلسطيني، واختيار البديل الذي يواصل النهج والأثر، أي بمدلول؛ (ولتصنع على عيني).!!
جميل أن الرئيس (أبو مازن) بعد أن جاوز الثمانين بدأ يفكر في الرحيل، والأجمل هو المساهمة في اختيار البديل، لكنَّ السؤال: يا سيادة الرئيس ما هي الضوابط والمعايير؟ وهل ستشرك معك شخصيات فلسطينية مشهود لها بالنزاهة والوطنية أم أن بطانة السوء، وعجقة الملأ من حولك هم من سيقررون؟!
إن كل ما نشاهده اليوم لا يوحي بأن ما يقوم به الرئيس أبو مازن سيؤدي إلى الاستقرار والأمن في الساحة الفلسطينية، فليس هناك خطوة تشي بأنك يا سيادة الرئيس تعمل على إعادة اللحمة وترتيب البيت، بحيث تتحقق المصالحة وينتهي الانقسام، وكل ما نشاهده هو ترك قطاع غزة غارقاً في همومه وأزماته، وكأنه لا يمت لك بصلة من قرابة أو ولاء!!
كيف - يا سيادة الرئيس - يمكن أن تقنعنا بأن عقد المجلس الفلسطيني في رام الله هو خطوة لجمع الشمل الفلسطيني، وأنت تعلم بأن من سيصل إلى هناك سيأتي تحت حراب المحتلين – صاغراً ذليلاً – هذا إذ سمحت له أجهزة الشاباك بدخول الأراضي المحتلة!!
وكيف - يا سيادة الرئيس - يمكن أن تشارك قيادة أكبر فصيل في الساحة الفلسطينية وهي حركة حماس في مثل هذا اللقاء!! هل سيأتي الأخ خالد مشعل إلى رام الله، أم أنك ستقوم بترتيب أوراق دخوله هو والأخ رمضان شلح وآخرين من قيادات حماس والجهاد الإسلامي مع المستويات السياسية العليا في إسرائيل؟!
إنك - يا سيادة الرئيس - تعلم قبل أي أحد آخر بأن اختيار مكان انعقاد المجلس الوطني كان يخضع - في الماضي - لاعتبارات معينة، يتم مدارستها بين كافة الفصائل والاتفاق عليها، ولم تكن اختياراً منفرداً لشخص أو فصيل مهما بلغت قوته ومكانة زعيمه، لم يكن اختيار عمان أو القاهرة أو الجزائر بدون توافقات وطنية، هكذا تعودنا أن نفعل إذا ما أردنا الحفاظ على تماسك منظمة التحرير وقوتها، وأن تظل أعمدة الخيمة الفلسطينية قائمة وعامرة بأهلها.
لقد شاركت خلال الأسبوعين الماضيين في الكثير من الأنشطة لمنظمات المجتمع المدني، وفعاليات سياسية متعددة لفصائل وطنية وإسلامية، والتي تدور فكرتها وما يعتريها من نقاشات حول هذا الاجتماع القادم للمجلس الوطني في رام الله منتصف الشهر الحالي، وإن ما عليه الاجماع الوطني والإسلامي - يا سيادة الرئيس - أن هذه خطوة غير موفقة، وستعمل على تكريس القطيعة، وربما تأبيد الانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وأن ما عليه إجماعاً لا يختلف عليه اثنان هو ضرورة الدعوة لاجتماع الإطار القيادي المؤقت في دولة عربية كمصر، للتوافق حول الخطوات التي يتوجب اتخاذها - فلسطينياً - قبل دعوة لانعقاد المجلس الوطني.
يا سيادة الرئيس.. عليك أن ترتب أمر الرحيل بتفاهمات وطنية، تحقق الانسجام وتحفظ شيئاً من نهجك والأثر.
المطلوب والمرغوب: سؤال المرحلة؟
لو سألتني - يا سيادة الرئيس - أن أنصح لك، لقلت لك بمنتهى الصراحة والشفافية: إن الكثير ممن حولك هم عين عليك ولم يكونوا سنداً لك، وإن البعض منهم ليس فقط متهماً في دينه؛ بل وحتى في وطنيته، فكيف بك وأنت ترتب أمر الرحيل تعوِّل على مثل هؤلاء؟!
يا سيادة الرئيس أعرف أن حجم الأعباء التي على كاهلك أكبر من طاقتك على التحمل، وقدرتك العالية على المسير، وإن الكثير ممن كنت تنشد منهم الوقوف إلى جانبك والعون لشدِّ عضدك، خذلوك وتوزعت ولاءاتهم على طول الحدود من حولك، وأنك اجتهدت حيث حالفك الحظ حيناً فأصبت، وخانك - في أحايين - فأخطأت، وكان بالإمكان تفهم ذلك لو جاء عبر توافق وطني وإجماع شعبي، ولكنك آثرت – يا سيادة الرئيس - التصرف منفرداً، فتعددت بذلك الأخطاء والنكسات، وزاد تفلت الشارع وانفضاضه بعيداً عنك، ثم كان الانقسام البغيض ليوقعنا جميعاً في الخطأ وسوء السبيل.
يا سيادة الرئيس في هذا العمر الذي جاوز الثمانين، حيث كابدت في رحلته خمسين سنة من العمل النضالي، لك فيها من الأثر ما سوف تحفظه الأجيال، ولكن - أيضاً - عليك الكثير ممن لا تغيب ذكراه، ولن تنساه.
علموني - يا سيادة الرئيس - أن "العبرة بالخواتيم"، ونحن شعبٌ طيبٌ وكريم، فلا تخذلنا وأنت تضع لمسات الرحيل.
المطلوب اليوم - يا سيادة الرئيس - سرعة ترتيب البيت الفلسطيني، بالتأسيس للشراكة السياسة والتوافق الوطني، وقبل ذلك تحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام. المطلوب هو ردُّ الاعتبار من شخصك الكريم للمقاومة، والاعتراف بأنها كانت موطن العزِّ والفخر لنا ولأمتنا بغض النظر عن حجم الجراح، فليس هناك شعباً بلغ غاياته المرجوة دون تضحيات ودماء، والتاريخ تشهد وقائعه في الجزائر وفيتنام وأفغانستان بذلك.
لقد حاولت أن تقدم نموذجاً لصناعة السلام، ولكن مسيرتك لم تكلل بالنجاح، خذلك العرب والعجم، وزادت أطماع المحتلين بالتوسع على حساب وطنك وأحلامك في دولة فلسطينية يجتمع فيها الشمل، ويتحقق فيها السلام والازدهار، ويسود فيها الأمن والاستقرار، خذلتك إسرائيل ونتنياهو وغلاة اليمين من المتدينين والمستوطنين، وفي النهاية – يا سيادة الرئيس – ليس من الحكمة أن تغادرنا ونحن على هذا الخصام، وكل ما يمكن أن تحفظه الذاكرة أنك - وفي عهدك - قد وقع لانقسام؛ طال وتجذر، وأنك – وفي عهدك – تعرض أهلنا في قطاع غزة لثلاث حروب عاتية، ولم يكن صوتك بالاحتجاج عالياً، وكان اللغة هي للشماتة أقرب منها للدعم والمناصرة.
إن منظومة عملنا السياسي هي الأخرى – في عهدك –معثَّرة، وفتح حركة الجماهير أصبحت مدمرة، والفصائل في معظمها أشبه بخيال المآتة وعير الحيِّ والوتد، وكبار خيولها مخصيَّة لا تصهل.
يا سيادة الرئيس نحن لن نغمط حقك في بعض الفضل، فقد كان لك بعض الإنجاز على مستوى الاعتراف بالدولة وكشف سيئات الاحتلال، وفضح سياساته أمام دول العالم، ولكن كل ذلك كان على حساب ما نشاهده -اليوم - من توسع استيطاني، ونهب للأرض وتهويد لمقدساتها، وتراجع للقضية في الأجندة الإقليمية والدولية.
يا سيادة الرئيس: هذا الاجتماع للمجلس الوطني في رام الله منتصف هذا الشهر هو سكين في الخاصرة الوطنية، وانتكاسة لتطلعاتنا في توحيد الصف واجتماع الشمل، ونقطة سوداء لن تبرأ منها الصفحات التي تريد أن يكون لك فيها مكانة وأثر.