القدس المحتلة - إياد الرفاعي
وسط ضوضاء مدينة الدنيا، تغيب شمس الوطن، لتشرق شموسٌ أخرى، تختلف تمامًا عن شمسنا الذهبية، شموسٌ تشعل نيرانًا بين الأخضر والأصفر، لتهطل أمطار الفتنة فوق الوطن الأغبر، ليبقى الإيمان حبيسًا في قلوبٍ مغلقة، تراه ويراها.
في خضم هذه التناقضات الكبرى، والتيه اللا متناهي، جلست صديقتي متعبةً في أحد مقاهي المدينة، تنوي إغتيال عقلها المشغول بكل ما لا يخطر ببالك، جلست تفكر في طريقة أجمل لموت ذهنها المشغول طوعًا وقصرًا، فلم تجد في المقهى سوى فنجان قهوة أبيض، مليئ بالمشروب الأسود، الذي لم تتذوقه طوال حياتها الطويلة القصيرة.
حينها فقط استيقظ الجانب النائم من ذاكرتها، حينها سقطت كل الخيبات العالقة فيه، داخل قهوتها السوداء، الأمر الذي لم يجعلها تستهجن طعم المرار، فهي تظن أنها لم تتذوقه مسبقًا، بينما أكدت لها مرات عديدة، بأنها أدمنته دون وعي، أو دون علم للأمانة.
في ذلك الوقت، وفي الشق الآخر من هذه البلاد، قطعت الكهرباء، عن قرابة المليون ونصف المليون فلسطيني، ممن يقطنون قطاع غزة، هم أيضًا، لم يستهجنوا الأمر، فالظلام ليس غريب عليهم، لقد حاربوا خلاله أيامًا عديدة، وغاصوا داخله، لحفر أنفاقٍ قتالية كثيرة، ساهمت بتكبيد الاحتلال خسائر جمة.
في غزة كان هناك طفلٌ صغير فقد عائلته، يلهو قرب بقايا منزله، يلحق فراشة ملونة، يتعثر بالحجارة المتبعثرة، يقوم مجددًا، لم ينتبه المسكين حينما سقط، بأن ابتسامته سقطت أيضًا في فنجان قهوة صديقتي هناك.
صديقتي أفاقت عندما صُفعت بجناحي الفراشة الملونة التي كان طفل غزة يلحقها، تذكرت حينها أن الكون أوسع من كذب الرجال، وحقد النساء، غادرت المقهى دونما أن تدفع فاتورة الحساب، فقد دفعت مسبقًا حساباتٍ كثيرة، لم تكن تجلس على مقاعد إحداها.
بعدها بأعوام تزوج الطفل الغزي بعدما أصبح شابًا يافعًا بابنة صديقتي، واحتسيا القهوة سويًا بمنزلهما في مدينة القدس، فعندما قام الطفل عن الأرض وغادرت صديقتي المقهى، أضاءت غزة، وذاب الاحتلال متلاشيًا بفعل نورها