شبكة قدس الإخبارية

خلافة الرئيس

هاني المصري

كلمّا تقدّم الزمن تُطرح مسألة خلافة الرئيس محمود عباس بقوة أكبر، لأن الرئيس تجاوز الثمانين من عمره وانتهت الفترة القانونية لولايته منذ حوالي سبع سنوات من دون إجراء الانتخابات التي لا يعرف أحد متى ستعقد وكيف، مع تأكيد الرئيس المستمر بأنه لن يترشح لولاية ثانية، ما يعني أن معركة التنافس على الخلافة قد بدأت – وإن من وراء الكواليس - منذ فترة طويلة، وهي التي يمكن أن تفسر الكثير مما يحدث من قرارات وإقصاءات. كما أنّ الأطراف المقررة (فتح وحماس) ليستا ناضجتين ولا جاهزتين، ولا تريدان إجراء الانتخابات بالرغم من تأكيدهما المستمر على إجرائها.

ما يعطي أهمية استثنائية لمسألة خلافة الرئيس:

أولًا: استمرار وتفاقم الانقسام الفلسطيني وما أدى إليه من تعطيل المجلس التشريعي وعدم الاتفاق على وجود أو عدم وجود رئيس له، فـ"حماس" تصرّ على أن الدكتور عزيز دويك هو الرئيس الشرعي للمجلس التشريعي، وبالتالي إذا حصل شغور في منصب رئيس السلطة فسيستلم الدويك منصب الرئيس لمدة 60 يومًا، وبعدها تُجرى انتخابات رئاسية، تمامًا مثلما حصل بعد اغتيال الرئيس ياسر عرفات إذ تولى روحي فتوح رئيس المجلس التشريعي الرئاسة إلى حين تم انتخاب عباس رئيسًا.

أما "فتح" فتقول إن الدورة البرلمانية انتهت ولم يتم انتخاب هيئة رئاسة جديدة للتشريعي، وبالتالي لا يزال منصب رئيس المجلس التشريعي شاغرًا، ولعل هذا يفسر لماذا لا يريد الرئيس و"فتح" عقد المجلس التشريعي وتفعيله كا جاء في نص "اتفاق القاهرة"  و"إعلان الدوحة" و"بيان الشاطئ"، لأن عقد المجلس الذي تتمتع "حماس" فيه بالأغلبية ولو لجلسة واحدة يعني إمكانية انتخاب هيئة الرئاسة، وبالتالي إذا شغر منصب الرئيس بعد ذلك فسيتولى رئيس المجلس التشريعى الذي اختارته "حماس" الرئاسة لمدة ستين يومًا، ومن المفترض إجراء الانتخابات بعد ذلك، وإذا لم تُجر فسيظل رئيسًا إلى حين إجرائها.

ثانيًا: إن "فتح" والرئيس لم يختاروا نائبًا للرئيس سواء في "فتح" أو السلطة أو المنظمة، وليس معروفًا من هو الرجل الثاني أو الأشخاص الذين يمكن أن يشغلوا مناصب الرئيس بوصفه رئيسًا للسلطة والمنظمة و"فتح". ففي عهد ياسر عرفات كان معروفًا ومحسومًا إلى حد كبير من هو الرجل الثاني عمليًا، فعباس كان أمين سر اللجنة التنفيذية وصانع "اتفاق أوسلو" وأول رئيس لأول حكومة، وكان الرئيس عرفات عندما يغادر أي اجتماع يطلب من عباس رئاسته إلى حين عودته. كما كان هناك توافق عربي وإقليمي ودولي وإسرائيلي على من يخلف عرفات، أما الآن فلا يعرف أحد من سيخلف الرئيس، فهناك تنافس بل صراع محتدم على الخلافة بين عدد كبير من أعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح وبعض المستقلين، إضافة إلى دخول "حماس" على الخط من خلال إعلانها بأنها ستدرس مسألة المنافسة على الرئاسة من خلال ترشيح أحد قادتها، أو دعم أحد المرشحين المستقلين أو الفتحاويين في حال ترشح أكثر من مرشح عن "فتح".

لقد كتب الحمساوي أحمد يوسف مقالاً قبل سنتين تقريبًا طالب فيه بدعم ترشيح سلام فياض للرئاسة، وسألت عضوًا بارزًا في قيادة "حماس" عن رأيه في هذه الدعوة، فقال إنه شخصيًا يؤيدها ويمكن أن تدعمها "حماس" في ظروف معينة، ولعل هذا يفسر المخاوف المبالغ فيها التي تعكسها بعض القرارات، وهي نابعة من إمكانية تحالف "حماس" مع تيار "فتح" وشخصيات مستقلة سواء أُجريت الانتخابات أو لم تُجر.

حتى الآن، لم يظهر موقف دولي أو عربي أو إقليمي أو إسرائيلي على من يخلف الرئيس، فهناك احتمالات عدة وعدد كبير من الطامحين، وليس واضحًا لمن ستكون الغلبة؛ لذلك تُؤثِر جميع الأطراف الانتظار لمعرفة على من تراهن ومن تدعم ومن له فرصة أكبر بالفوز، ويساهم فى تعقيد هذه المسألة المعقدة أصلًا عدم وجود أفق سياسي، وعدم معرفة إلى أين سيذهب الوضع الفلسطيني: إلى جولة أو جولات من المفاوضات والانتظار المفتوح، أم إلى مواجهة، وما هو حجمها، وهل ستشمل الضفة والقطاع وتصل إلى انتفاضة يمكن أن تمتد إلى أراضي 48، أم ستأخذ شكل الموجات المحسوبة المتنقلة من مكان إلى آخر وتتمحور حول عنوان أو أكثر وليس حول كل شيء؟

هناك من يبالغ كثيرًا في مسألة خلافة الرئيس وأن عدم حسمها قبل رحيل الرئيس أو استقالته أو مرضه، لدرجة توقع انتشار الفوضى والاقتتال الداخلي بين الطامحين للرئاسة كسيناريو وحيد، ويمكن أن يكون السيناريو الأول ولكن ليس الوحيد بالتأكيد، لأنه "عندما تقع الفأس بالرأس" يمكن أن يفرض الواقع الجديد نفسه على الجميع ويدفعهم إلى التوافق قبل "خراب البصرة".

وهناك من يبسّط المسألة تبسيطًا مخلًا، لدرجة القول إن شغور منصب الرئيس يمكن ملؤه ببساطة من خلال اجتماع اللجنة التنفيذية للمنظمة ودعوتها إلى اختيار الخليفة من بين أعضائها، ودعوة اللجنة المركزية لحركة فتح واختيارها رئيسًا جديدًا لها، أو دعوة المجلس المركزي لمنظمة التحرير للانعقاد وانتخاب الرئيس الذي اختارته "فتح" أو اختيار أي شخص آخر لرئاسة السلطة والمنظمة، فالمجلس المركزي وفق أصحاب وجهة النظر هذه هو من أنشأ السلطة ويستطيع اختيار رئيس مؤقت إلى حين إجراء الانتخابات الرئاسية.

ينسى هؤلاء وأولئك أن "فتح" لم تعد منذ زمن هي صاحبة الأغلبية الكبيرة، وبالتالي صاحبة الحق في القيادة الانفرادية للمنظمة والسلطة. كما أن المنظمة لم تعد عمليًا تملك الشرعية الكافية لتقرير من سيكون الرئيس بعد حالة الموت السريري التي دخلتها منذ توقيع "اتفاق أوسلو"، ولا يغيّر كثيرًا من وضعها إبر الإحياء الضعيفة التي أعطيت لها بعد فوز "حماس" في الانتخابات التشريعية العام 2006.

المنظمة بتشكيلتها الحالية لم تعدّ عمليًا الممثل الشرعي والوحيد لأن مياه كثيرة قد جرت منذ تأسيسها وحتى الآن، وأصبح "التيار الإسلامي" ينافسها بشدة على القيادة والتمثيل، لذلك من دون إجراء الانتخابات أو توافق وطني يتضمن انضمام "حماس" والجهاد الإسلامي إلى المنظمة لا يمكن الحديث عن شرعية أي إجراء، خصوصًا بعد أن حسمت "حماس" مسألة اشتراكها في المنظمة وتخلّت عن مساعيها لإقامة منظمة بديلة أو موازية، وشاركت بالتوصل إلى اتفاقات المصالحة من "إعلان القاهرة" 2005 إلى "وثيقة الأسرى" ووثيقة الوفاق الوطني إلى "اتفاق القاهرة" وملحقاته، وبعد أن سيطرت بعد الانقلاب/الحسم على قطاع غزة، وبعد أن فرضت وعمّقت هذه السيطرة، لدرجة أن العديد من الأطراف الدولية والعربية تتعامل معها، لا سيما بعد أن تفاوضت إسرائيل معها بشكل غير مباشر لعقد اتفاقات الهدنة وتبادل الأسرى وتتفاوض معها الآن للاتفاق على هدنة طويلة الأمد مقابل رفع الحصار.

ما يعطي لمسألة الخلافة أهمية إضافية على ما سبق  أن الرئيس المنتهية ولايته الذي لم يدع إلى عقد المجلس الوطني للتجديد له أو للشروع في تشكيل مجلس وطني جديد بالانتخاب حيثما أمكن، وبالتوافق حين يتعذر الانتخاب؛ أصبح يتمتع بسلطات وصلاحيات استثنائية من دون مشاركة للمؤسسات في السلطة والمنظمة وحركة فتح ومن دون مراقبة ولا مسألة ولا محاسبة، إذ أصبحنا أمام نظام فردي بكل معنى الكلمة.

إن عدم حسم مسألة الخلافة وعدم إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية في مواعيدها، أو التوصل إلى توافق وطني لتجديد المؤسسات في السلطة والمنظمة، والحالة المزرية التي تمر بها المنظمة يوحي بأن الإبقاء عليها شكلًا إنما يستهدف قيامها بدور أخير، وهو التوقيع على الاتفاق النهائي باسم الشعب الفلسطيني، لأن إسرائيل تصرّ على أن يكون مثل هذا الاتفاق يشمل إنهاء للصراع بكل جوانبه ووقفًا لكل المطالَب الفلسطينية.

كتبت هذا المقال في محاولة لتفسير ما يجري، بدءًا من سقوط أحمد قريع في مؤتمر "فتح" ونجاحه كمستقل في الانتخابات الاستكمالية لأعضاء اللجنة التنفيذية، وما حصل بعد ذلك مع محمد دحلان ونبيل عمرو وناصر القدوة ومروان البرغوثي، وكيفية التعامل القيادي مع جبريل الرجوب بما يتعلق بمسألة "الفيفا" وعضوية إسرائيل فيها، وغيرهم من داخل "فتح"، وسلام فياض، وأخيرًا ياسر عبد ربه وتعيين صائب عريقات من دون الرجوع إلى اللجنة التنفيذية ولا حتى اللجنة المركزية لحركة فتح قائمًا بأعمال أمين سر المنظمة باعتباره يتعلق بالتنافس والصراع على الخلافة. فالرئيس لا يعرف ماذا يمكن أن يعمل إزاء المخاطر والتعقيدات التي تواجه القضية الفلسطينية بعد أن وصلت المفاوضات إلى طريق مسدود من دون شق طريق جديد مختلف كليًا، فآثر إبقاء الأمر على حاله إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.

كما أنه يخشى في ظل الضيق الأميركي والإسرائيلي من بعض سياساته أن يحصل معه ما حصل مع سلفه، إذ تعرض لإقصاء بمشاركة زملاء وأخوة له تنفيذًا لدعوة جورج بوش الابن لتغيير قيادة عرفات (ولعل هذا يفسر الحديث المتكرر عن اكتشاف مخططات انقلابية بين فينة وأخرى في الضفة الغربية)، ويخشى عباس أيضًا من أن الذي سيخلفه يمكن أن ينتقم منه من خلال ملاحقة أولاده.

إن شغور منصب الرئيس في ظل عدم التوافق الوطني على إدارة المرحلة الانتقالية وعدم شرعية المؤسسات القائمة قد يفتح الباب أمام سيناريوهات عدة أحلاها مرّ "فاتقوا الله" قبل فوات الأوان. فالمطلوب حوار من أجل عقد اجتماعي جديد ضمن رؤية شاملة وخارطة طريق كاملة.