اليوم: الأربعاء؛ التاريخ: 2/تموز/2014.. أذكر هذا اليوم بكامل تفاصيله، كنت في البيت في قرية جت وكانت وجهتي إلى القدس، استيقظت عند الرابعة والنصف صباحًا لأجد الصديقة ثورة أبو خضير قد كتبت منشورًا على مجموعة طلابية: "ولكم خطفوا ابن عميييي مستوطنييين، بحكيلكم خطفوه من باب الدار!!"، على الفور اتصلت بها وحدثتني أن ثلة من المستىوطنين خطفوا ابن عمها محمد أبو خضير من أمام المسجد في شعفاط وفرّوا من المكان.
وجدت والدي مستيقظًا ويتابع الأخبار، عند الخامسة والنصف بدأ الإعلام الإسرائيلي يبرق معلومات على لسان شرطة الاحتلال حول العثور على جثة متفحّمة في حرش قرب قرية دير ياسين المهجّرة.
أوصلني أبي إلى محطة الباص لأتجه الى القدس عند السادسة صباحًا.
في الحافلة جلست في المقاعد الخلفيّة مُحاطًا ببزات عسكريّة وأمتعة وأسلحة لجنود الإحتلال، جميعهم يتابعون الأخبار ويتناقلون بكبرياء وفخر اخر التطورات. فيما بقيت جالسًا بصمت أتابع التطورات وأتصل بثورة لأعرف المستجدات بعدما استدعى جهاز المخابرات والد محمد أبو خضير للتحقيق.
وصلت القدس لأجدها قد تحولت إلى مراكز شرطة وتجمعات لجنود الاحتلال في كل حدب وصوب. دخلت إلى الجامعة وكانت فترة امتحانات نهاية العام الدراسي كما الآن، لكن الطلاب خارج الصفوف وخارج المكتبة، لا أحد يلازم مقاعد الدراسة او يحمل كتب ومواد، الجميع يحدق في هاتفه بحثًا عن الجديد من الأخبار.
قررت مجموعة من الطلاب الذهاب إلى شعفاط، كان الجو متوترًا والخوف يسيطر على الجميع، الخوف من تحدثهم العربية في المرافق العامة وعلى خوفهم من التنقل وسط الإسرائيليين وفي المواصلات وحدهم، قلق الأهالي ازداد بعد تصاعد الأحداث واشتعال المواجهات في شعفاط والعيساوية، أهالي الكثيرين من الطلاب قطعوا مئات الكيلومترات كي يصلوا القدس ويأخذوا أبنائهم ويعودوا بهم إلى بيوتهم في الشمال والمثلث.
مجموعات متفرقة من أبناء شعفاط يتمركزون في مناطق مختلفة كلجان شعبية يتفقدون ويتفحصون المارين الداخلين الى البلدة تحسبًا من دخول وحدات المستعربين بشكل خفي لتنفيذ اعتقالات.
مداخل شعفاط كلها مغلقة، القوات الخاصة متواجدة بكميات كبيرة وبعتاد كبير، الصحافة متواجدة، شباب من العيساوية ومن مناطق أخرى شمروا عن سواعدهم وترجلوا الى شعفاط بحثًا عن التصدي والمواجهة.
عشرات الشباب كانت تُصاب برصاص مطاطي ومن ثم تُضمد، تستريح قليلًا وتعود الى ساحة المواجهة مع الإحتلال. كان الشباب منظم على أساس فرق: فرق حراسة المداخل، وفرق تواجه وتتبدل بفرق أخرى كنا في بداية شهر رمضان والطقس حار جدًا، كانت فرق تسعف بالاضافة الى طواقم الهلال الأحمر، وطواقم رش المياه الباردة على الصائمين الذين يواجهون.
النساء كانت تخرج من البيوت مُحمّلة بالحجارة للمواجهات وفرق أخرى من النساء كانت تحضر عبوات المولوتوڤ في المطابخ وتخرجها للشباب.
امتدت المواجهات حتى صباح اليوم التالي، وشعفاط شبه محررة، لا تستطيع آلية عسكريّة دخولها.
طّور الشباب نظريّة أمن شعبي، لمنع اندساس المستعربين بينهم بالخفية وتنفيذ اعتقالات، وهي إدخال القميص أو البلوزة داخل البنطال كي يظهر ما يُخبأ تحتها كون المستعربين يتسترون على أسلحتهم داخل ملابسهم الفضفاضة.
بلغت الإصابات يومها السبعين بين رضوض وجروح وكسور في الأيدي والأرجل، إضافة إلى حالات اختناق من الغاز والحروق من قنابل الصوت.
مئات الشباب تصل إلى شعفاط من مناطق القدس المحتلة ومن الداخل أيضًا. عشرات طلاب التمريض انضموا إلى وحدات الاسعاف الأولي سواء في الميدان ومستشفى المقاصد، العشرات تطوعوا في كتابة الأخبار ونقل الأحداث من قلب البلد.
صباح اليوم التالي القدس كلها بغالبية أحيائها تلبي النداء في البلدة القديمة، مخيم شعفاط، العيساوية، الطور، راس العمود، سلوان، بيت حنينا، وادي الجوز والعديد من الأحياء، ويذكر أن هناك احياء لم تنتفض منذ الانتفاضة الثانية قد تحركت ودارت فيها مواجهات حادة مع الاحتلال. مساكن الجامعة محاطة بالعيساوية، الطور، وادي الجوز والصوانة، منها جميعًا تفوح رائحة غاز الفلفل وأصوات قنابل الصوت، لا أحد يدرس ولا أحد يبالي، جميع الطلاب إما غادروا القدس أو بقوا فيها وتفاعلوا مع الأحداث.
مع نهاية اليوم الأول تأكد الجميع، أن الطفل الشهيد محمد أبو خضير قد خُطف وسُكب عليه البنزين وحُرق حتى مات، الأمر الذي اثار مشاعر الجميع. وشعر غالبية سُكان القدس أن ما حصل هو بمثابة تهديد شخصي على حياتهم وهو الذي حرّك القدس والضفّة والداخل.
في اليوم الثاني، الخميس 3/7/2014 تفاقمت الأمور واشتدت وتوسعت رقعة المواجهات، وازداد عدد الجرحى. عشرات البلدات في تلداخل تنظم مظاهرات غاضبة تنتهي بمواجهات أذكر منها: كفرقرع، يافا، شفاعمرو، عبلين، حيفا، الناصرة، كفركنا وأم الفحم ووادي عارة. شباب شعفاط بدأوا بقطع طريق "القطار الخفيف" وعطلوا الماكنات وسكك الحديد والكهرباء.
طائرات الاحتلال تحوم فوق القدس، وقد أُطلقت في الجو مناطيد التسجيل والمراقبة، القوات الخاصة والمستعربين مترجلين منتشرين في كل مكان.
كان شباب شعفاط أثناء المواجهات يخترقون صفوف القوات الخاصة ويقتحمون مركباتهم ويسيطرون على قنابل الصوت والغاز ويطلقوها نحوهم، كما يُذكر أن شباب الفصائل والتنظيمات في القدس كانوا يدًا واحدة في وجه المحتل.
بالطبع جهاز المخابرات ماطل كثيرًا في الإفراج عن الجثمان ووضع شروطًا معقدة منها أن يتم الدفن بمشاركة 30 شخصًا على الأكثر، لكن ذوي الشهيد رفضوا ذلك وشعفاط والقدس رفضت ذلك.
في ساعات المساء وصلنا خبر عن فشل محاولة اختطاف طفل آخر اسمه محمد علي حمدان من سكان بيت حنينا، واشتدت المواجهات في الليل. عند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل أبلغنا مستشفى المقاصد عن حاجته لمتبرعبن بالدم بسبب نفاذ مخزونه لكثر الاصابات التي تصل المشفى. أعلنا كحركة طلابية عن حاجة المقاصد لوجبات الدم، عند الساعة الثانية تقريبًا امتلأ المشفى بعشرات الطلاب المتوافدين من المساكن للتبرع بالدم، بقينا هناك حتى الصباح.
اليوم الجمعة 4/7/2014 لم ينام أحد، الكل ينتظر وصول جثمان الشهيد إلى الزفّة في شعفاط. إن لم تخني ذاكرتي خرجنا سويًا من المساكن قرابة المئة طالب على مجموعات متفرقة. الآلاف تواجدوا من كل مكان. وصل جثمانه وسارت الجنازة بعد الصلاة عليه للدفن وقبيل وصول المقبرة اندلعت المواجهات مرّة أخرى وامتدت لساعات المساء المتأخرة.
في هذه الفترة كان دور بارز للحركة الطلابية في القدس، يستحق التقدير والتوثيق كما أن هذه التفاصيل الصغيرة مهمة.
بعد الدفن وهدوء القدس اعتقل الاحتلال منذ شهر 7/2014 حتى شهر 10/2014 أي في فترة العدوان على غزّة وعمليات الدهس والطعن قرابة ال 600 مقدسي، معتقل المسكوبيّة لم يعد قادرًا على استيعاب المعتقلين حيث كانوا ينقلون إلى المعتقلات في منطقة تل أبيب والرملة.
القدس في حالة انتفاضة ثالثة غير مُعلن عنها منذ اختطاف المستوطنين الثلاثة قرب الخليل حتى يومنا هذا. جهاز المخابرات والشرطة يأكدون دائمًا أنه لا مكان لانتفاضة ثالثة كي يهبطوا عزائم الناس باستعراضهم عدم القلق، لكنهم في الحقيقة يواجهون انتفاضة ثالثة بمعدل عملية كل اليوم في الضفة والقدس.
عاشت القدس وعاشت سواعد شبابها ونسائها وأهلها تحميها من الاحتلال وأعوانه.