لا يخفى على متابع فطِن أن بلدية الاحتلال في القدس برئيسها نير بركات، هي أحد أذرع قوة الاحتلال الإسرائيلي لفرض سيطرته وأجندته وخدمة مصالحه الاستعمارية في مدينة القدس. البلدية التي ينظر إليها البعض كمجرد "مزوّد للخدمات البلدية" في الأحياء الفلسطينية المقدسية، ومجرد عنوان يجب أن "ننتزع منه حقوقنا في الخدمات"، ليست كذلك، فهي في نهاية المطاف تؤدي دورها الوظيفي في تثبيت السّيطرة الإسرائيلية على القدس كـ"عاصمة موحدة للشعب اليهودي ولدولة إسرائيل"، ولا يمكن في أي حال من الأحوال فصل تقديم خدمات بلدية كمثل بناء مدارس أو تنظيف شوارع عن السّياق السّياسي الاستعماري الذي تعيشه المدينة المحتلة.
تتبع بلدية الاحتلال في القدس في تعاملها مع المقدسيين سياسة العصا والجزرة، أما العصا فهي معروفة للجميع، أما بالنسبة للجزرة، فقد تم تكثيف سياسات الضبط الناعم من قبل البلدية منذ بداية هذا العام (لا يعني ذلك أن هذه السياسات لم تتبع من قبل)، وذلك في ردّ فعل مباشر للهبة الشعبية التي تلت استشهاد الطفل محمد أبو خضير في تموز الماضي. ما هي ملامح سياسة الجزرة؟
يكثف نير بركات من زياراته للأحياء الفلسطينية، يحاول أن يعقد شراكات وعلاقات مع بعض "الوجهاء" الذين يضحون بالمبادىء الوطنية مقابل بعض المصالح الاجتماعية والاقتصادية. يحاول نير بركات أن يكون أول الواصلين إلى ساحة الحدث، مثال على ذلك، سرعة وصوله إلى قرية سلوان عندما اندلع حريق في أحد منازل الفلسطينيين فيها، وقدومه لتفقد أحوال البلدة القديمة عقب سقوط الثلوج وحصول انهيارات في بعض البيوت مطلع العام الجاري.
وآخر تلك الزيارات، كانت مشاركته في اطلاق مدفع رمضان الموجود في مقبرة باب الساهرة، شارع صلاح الدين، مع العلم أنها ليست المرة الأولى التي يقوم بها بزيارة المكان، لكنها بطبيعة الحال اكتسبت طابعاً مكثفاً من محاولات التطبيع مع الوجود البلدي الإسرائيلي وحضوره فيما يتعلق بشؤون الفلسطينيين في القدس، إذ تبع اطلاق المدفع مائدة افطار على شرف بركات، ومن ثم جولة قصيرة في إحدى حارات البلدة القديمة، لم يلق فيها الكثير من "الترحيب".
في سياق آخر، حسنت بلدية الاحتلال من حضورها الاعلامي باللغة العربية، سواء عبر تكثيف البيانات الصّحفية الصّادرة باللغة العربية، أو عبر صفحة الفيسبوك الناطقة بالعربية والخاصّة بنير بركات، أو عبر عدد من الصحفيين الفلسطينيين، ودعوتهم لعقد مقابلات صحفية خاصة مع بركات، ولقد رأينا تلك المقابلات تنشر على صفحات جريدة القدس، وبعض المواقع الإلكترونية.
وبالعودة إلى شهر رمضان، فتحاول بلدية الاحتلال تسويق نفسها على أنها الراعي والساهر على راحة وخدمة الفلسطينيين خلال هذا الشهر الكريم، وأنها مهتمة جداً بتأمين كل ما يجعل من رمضان "مناسبة دينية احتفالية ناجحة". وقد علقت بلدية الاحتلال لافتات تهنىء المسلمين برمضان، في منطقة باب العامود وباب الساهرة، وقامت بتعليق لافتات ترشد إلى محطات الحافلات. وقد أعلنت في بيان صحفي لها أنها ستكثف علميات تنظيف الشوارع، بل ستعمل على شطف الأزقة المؤدية إلى المسجد الأقصى، كما قامت بتزين منطقة باب العامود وشارع السلطان سليمان القانوني بالإضافة إلى شارع رابعة العدوية في الطور.
كما ستعمد بلدية الاحتلال من خلال مراكزها الجماهيرية المنتشرة في عدة أحياء فلسطينية إلى إقامة موائد إفطار جماعية، في محاولة لاستمالة قلوب الناس، ليصبح وجود "المركز الجماهيري" الذي يتبع للبلدية وجوداً محبباً وعادياً في داخل هذه الأحياء. وقد قام أحد هذه المراكز الجماهيري في منطقة وادي الجوز بتنظيم مسيرة فوانيس للأطفال، بترخيص من شرطة الاحتلال، سارت في عدد من شوارع المدينة، في آخر ليلة من ليالي شعبان.
لا يمكن بأي حال من الأحوال النّظر إلى هذه النشاطات وغيرها وكأنها نشاطات عادية – لا علاقة لها بالسياسة - تقوم بها البلدية الإسرائيلية "لصالح الفلسطينيين". إنّ هذه السياسة الإسرائيلية قديمة متجددة تهدف إلى استمالة قلوب الفلسطينيين، وضمان "هدوئهم"، بالضبط كما كانت القيادات الإسرائيلية تطالب خلال العام الماضي "إعادة الهدوء إلى القدس"، والبلدية تدرك بأن إعادة الهدوء غير ممكنة بوسائل العنف فقط، فالاعتقالات والابعادات والاعتداءات لا تكفي، بل لا بد، في نظرها، من يد "حنونة" تفتح أبواب "التعاون" وتحسن توظيف المصالح المشتركة لخدمة أهدافها.
مع كلّ هذه الجهود التي تقوم بها بلدية الاحتلال، فإن الوعي الشّعبي المقدسي قد ارتقى درجة منذ حادثة استشهاد أبو خضير، وكل من يعيش تفاصيل القدس ويومياتها يدرك بأن العودة إلى المربع الأول من المواجهات ليس أمراً صعباً، وأن محاولات التدجين الإسرائيلية لن تنجح بالتحايل على كلّ المقدسيين، وأن من تنطلي عليهم هذه المحاولات سيواجهون في نهاية المطاف بالنبذ وعلامات السؤال.