كتب: عبدالستار قاسم
من المفروض أن الإعلام سلطة رابعة تمارس دور الرقيب الحريص على مصالح الناس، وعلى نقل الحقائق لهم دون تزييف أو تزوير أو نفاق، لكن لا يبدو أن هذا المفروض بقي متوقعا لأن الإعلام في كل مكان من هذا العالم لم يعد إعلاما حرا يخدم كل الناس، وإنما هو إعلام ممول في الغالب من جهات متنفذة أو ثرية معنية بالترويج لنفسها أو لأفكارها وسياساتها.
قد يكون الإعلام حرا على السطح، لكن جهات التمويل المباشر وغير المباشر تشترط سلفا على وسيلة الإعلام والعاملين فيها -وبخاصة رئيس التحرير- التقيد برغباتها. وواضح على المستوى العالمي أن الإعلام يخدم مصادر النفوذ ولو كان على حساب الفقراء والمساكين والكادحين والمسحوقين، وأن الإعلام أصبح في العقود الأخيرة سيفا على رقاب الناس لا بأيديهم.
هبوط الإعلام إلى مستوى خداع الناس يشمل العالم الغربي أيضا لأن وسائل الإعلام الغربية متأثرة فكريا وثقافيا بجهات معينة، وقادرة على الاستمرار في البث أو الطباعة بمساعدة تجارة الإعلانات التي يمارسها الإعلاميون مع الشركات الرأسمالية الكبرى. وهذه وسائل ذات مواقف سياسية واجتماعية وثقافية تؤثر بصورة خطيرة على موضوعيتها ورغباتها في نقل الصورة كما هي إلى عموم الناس.
وإذا كنا نقارن بين الإعلام الغربي والإعلام العربي ربما نجد أن المقارنة تتركز حول صناعة الموقف والتضليل. فالإعلام الغربي في أغلبه يتبنى مواقف مسبقة تجاه العديد من القضايا مثل القضية الفلسطينية والهجوم على العراق وتحرير الإنسان العربي والفكر الإسلامي، وغالبا ما تكون منحازة. أما الإعلام العربي فهو في أغلبه كاذب ومضلل ومزور ورخيص، ووظف الجزء الأكبر منه نفسه لخدمة الحاكم المستبد أو المتخلف والظالم والناهب لثروات الناس.
بسبب تركيز الإعلام الغربي على المواقف المسبقة يمكن أن يكون موضوعيا ومهنيا في نقل المعلومات الصحيحة حول قضايا لا يحدد بشأنها مواقف مسبقة مثل صيد السمك في المحيط الأطلسي، أو الانهيارات الجليدية في المحيط المتجمد الشمالي. أما الإعلام العربي -في غالبه- فلا ثقة به في القضايا الجوهرية ولا في قضايا البيئة أو المرأة أو تطوير أسلحة الدمار الشامل أو المقاومة أو الإرهاب.
غياب الثقة بالإعلام العربي يعود إلى عدد من العوامل منها:1- اعتاد الإنسان العربي سماع الكذب من إعلامه إلى درجة أنه بات يعزف عن الاستماع إلى نشرات الأخبار ومتابعة البرامج الثقافية والحوارية. لقد شبع العربي وأتخم من سماع أخبار انتصارات الأنظمة العربية والإنجازات "العظيمة" التي تحققها باستمرار. يسمع العربي شيئا ويرى على الأرض شيئا مختلفا، فمن يصدق: سمعه أم بصره؟ إنه يصدق عينيه ويكذب أذنيه. لقد رسم الإعلام العربي لنفسه في عمومه صورة قبيحة، إلى درجة أن العربي يردد في كثير من الأحيان أنه لا يوجد في الصحيفة خبر صادق إلا أخبار الموتى والتعازي فيهم.
2- يعي العربي جيدا أنه لا توجد غالبا وسائل إعلام عربية مستقلة مهتمة بتعريف الناس بالحقائق. هناك إعلام النظام الذي لا يتوقف عن توجيه المديح والثناء والتبجيل للحاكم العربي الذي هو في عمق وعي المواطن العربي إنسان دجال ونصاب وشهواني، لا يكترث بالدولة وإنما بمصالحه الخاصة ومصالح زبانيته من المنافقين والأفاقين. فإذا كان الحاكم على هذه الشاكلة في وعي الإنسان العربي، فما هي شاكلة الذي نذر نفسه للترويج له؟ وتمتد تبعية الإعلام إلى الوسائل المستقلة التي لا تصمد أمام ضغوط النظام السياسي وأجهزته الأمنية فترضخ لإرادته.
3- لا ثقة لجموع الناس بغالبية مديري تحرير الصحف والمجلات أو مديري تحرير نشرات الأخبار في القنوات العربية. الانطباع السائد لديهم -وهو انطباع صحيح ودقيق- أنه لو لم يكن أغلب مسؤولي التحرير منافقين ومزورين ومتماشين مع سياسة النظام، لما أصبح الواحد منهم في موقع المسؤولية. إن هذا النوع من المسؤولين مستعد دائما لبيع نفسه وضميره مقابل ما يحصل عليه من أموال الداعمين.
ومن السخرية في الساحة العربية أن قنوات فضائية تستضيف عادة رؤساء تحرير صحف أو فضائيات للتحدث في قضايا عربية وهي تعرف مسبقا -كما يعرف جمهور الناس- أنه سيتحذلق ويكذب بصورة متناسبة مع النعم التي يحصل عليها مقابل توظيف ضميره. وربما يمثل ذلك قمة انهيار العلاقات القائمة على الثقة في الساحة العربية.
لم تعد الثقة المتبادلة هي أساس إقامة العلاقات في الساحة العربية، وإنما بات الشك هو الأساس. فأي أمة سيصنعها العرب إذا كان الشك عنوان العلاقات المتبادلة. الأمم لا تحيا بعلاقات الشك المتبادل وإنما بعلاقات الثقة المتبادلة والتي تمهد عادة الطريق أمام العمل الجماعي والتعاون المتبادل والإحساس بالمصير المشترك.
4- ينفر كثير من الناس من البرامج الحوارية التي تجرى على الشاشات العربية لأنهم غالبا لا يثقون بالمتحاورين الذين هم في الغالب من كبار المثقفين والأكاديميين العرب. والسبب أن العربي لم يعد يثق بمثقف أو أكاديمي، على اعتبار أن الجميع يلهثون وراء مصالحهم ولديهم الاستعداد للتخلي عن الوطن العربي مقابل هذه المصالح.
وهنا يقارن العربي بين مثقفي أهل الغرب الذين خاضوا مضمار الرقي بوعي الناس، وأدت كتاباتهم إلى انفجار ثورات حجّمت الاستبداد، وطوعت الحكومات لإرادة الشعوب، وبين المثقف العربي الذي يستعمله النظام السياسي لتزيين الفشل والسقوط ونهب الأموال، والذي لا يجرؤ على تحدي النظام السياسي والنظام الاجتماعي ويفضل الاستكانة والخنوع حتى لا يطاله أذى.
العربي يعي جيدا أن معلمي ومعلمات المدارس والجامعات لا يرتقون إلى مستوى المسؤولية في بث الوعي لدى التلاميذ والطلاب خوفا من أجهزة الأمن التي تُشهر أسلحتها المختلفة في مواجهة الأحرار. إنهم يخشون على الراتب الذي بدونه لا يتمكنون من تصريف شؤون عائلاتهم. المثقف العربي -في عمومه- مدجن ومروض، ودائما يبحث عن فذلكات جدلية ليبرر لنفسه وغيره تقصيره في حمل الأمانة.
5- قمة المأساة بالنسبة للمواطن العربي أن يرى أستاذا جامعيا على الفضائيات يدافع عن نظام عربي، ويبرر له أعماله. بعد كل هذا الفشل الذي لحق بالأمة العربية على مدى عقود وعلى مختلف المستويات، هناك من بين الأكاديميين والمثقفين من يرى بعض الخير في الأنظمة السياسية العربية. فإذا كان الأكاديمي منافقا ودجالا وكاذبا ومضللا، فمن في الساحة العربية سيسد الفراغ؟
إذا تتبعنا وسائل الإعلام العربية حول مسألة الحراك العربي الذي أسماه أميركي الربيع العربي، لوجدنا أنها منقسمة حديا إلى مع وضد. وسواء كانت الوسيلة مع أو ضد، لا تصل الحقيقة إلى المواطن العربي. فالذي مع الحراك يسجل انتصارات متتالية وواسعة للذين يتبناهم، والذي ضده يسجل هزائم متكررة وكبيرة للذين يبغضهم، فأين الحقيقة؟
تلقي أذنك لبعض الفضائيات فتحسب أن النظام السوري قد انتهى منذ زمن، وأن الجيش السوري قد قتل عن بكرة أبيه. إنها تبالغ جدا في خسائر النظام. وتلقي أذنك إلى فضائيات أخرى فتحسب أن المعارضة السورية قد قضي عليها تماما وهي وجدت لتهزم فقط، وإذا تتبع المستمع أعداد القتلى من المعارضة فإنه يستنتج أن المعارضة قد اختفت تماما.
وإذا كان المواطن العربي يعي أن الحرب في سوريا ما زالت متواصلة وشرسة، فمن هم هؤلاء الذين يتحاربون إذا كان الجيش السوري قد فقد جنوده، وإذا كانت المعارضة قد سحقت؟ هل هي حرب أشباح، أم حرب الأكاذيب والسيطرة على عقول الناس؟ في ذات الوقت نسمع من كل فضائية حرصها على الموضوعية والمهنية في إيصال المعلومات للناس، في حين أن أغلب الفضائيات ساهمت وتساهم في دمار الوطن العربي لأنها تغذي الأحقاد البينية وتتبنى جهة دون جهة في استمرار الحرب. هذا الدجل الإعلامي ينطبق على مصر وليبيا واليمن والعراق.
تم تحرير الرمادي -وفق بعض وسائل الإعلام- مرارا وبالكامل، وبعد يومين تسمع أن تنظيم الدولة تحتل الرمادي. كيف يكون هذا؟ ومن الذي كذب أولا ودفع الآخرين لملاحقة كذبه؟ وتسمع أن المعارضة تفتقر إلى السلاح، وسرعان ما تظهر على بعض الشاشات أسلحة جديدة تستخدم لأول مرة في ميادين القتال. وهناك محطات تنفي وجود دعم مالي لتنظيمات مساهمة في الحراك العربي مع أو ضد، لكن لا يوجد من يجيب عن كيفية تدبير المقاتلين أمورهم المعيشية إذا كان التمويل غير موجود.
وبالأرقام فإن الحرب في سوريا تدور منذ أربع سنوات، أي على مدى 1460 يوما، وإذا قتلت المعارضة ما معدله خمسين جنديا سوريا يوميا، فعدد قتلى الجيش السوري يساوي 73 ألف جندي، وعدد قتلى المعارضة سيكون نفس العدد إذا كان يسقط منها خمسون مقاتلا يوميا.
أرقام ماحقة تدلل على كذب وافتراء وسائل الإعلام. هذا فضلا عن عشرات آلاف بل مئات آلاف المدنيين الذين تم قتلهم من الجانبين المتحاربين. بعض وسائل الإعلام تضخ أخبارا عن قيام الجيش السوري بقتل المدنيين، وبعضها يرى أن المعارضة هي التي تقوم بذلك، فأين الحقيقة؟
أما الإعلام الفلسطيني فمن المفروض أن يتمسك بالموضوعية والمهنية الإعلامية من أجل إيصال الحقيقة للناس وكسب ثقتهم، ومن أجل بث روح الأمانة في نفوس الذين يتطلعون إلى التحرير. شعب يريد أن يتحرر، يجب أن يبقى بعيدا عن التضليل والكذب.
حتى الآن وبعد أكثر من عشرين عاما من الفشل الذريع للقيادات السياسية والاتفاقيات التي وقعتها مع الصهاينة، ما زال هناك من وسائل الإعلام الفلسطينية من يصر على استمرار التضليل والإشادة بعبقرية الذين وقعوا على اتفاق أوسلو وورطوا الشعب الفلسطيني وقادوا القضية الفلسطينية إلى التدهور على مختلف الساحات العربية والدولية.
وما زال هناك من المثقفين والأكاديميين من يرى في الاتفاقيات مع الكيان الصهيوني حنكة سياسية حشرته في الزاوية. شعب فلسطين لا يسلم من تضليل وسائل الإعلام الفلسطينية، كما لا يسلم العربي من خداع وسائل الإعلام العربية.