تأليف: ساره ماهر الكحلوت - غزة
كان عليّ أن أدرك منذ البداية أنني أحتاجك كما أحتاج الماء والهواء، كان عليّ أن أجهز نفسي لرحيلك المفاجئ الذي بلا أي عنوان، لم أعد أفهمك لم أعد! لا أنا لم أفهمك مطلقاُ مذ عرفتك، اسمعني جيداً لا تظن أنني سأتوقف عندك وأنني لن أكمل حياتي دونك، بل سأفعل وسترى!
أنا كاذبة ....
30/12/66
نهلة الرافعي، دمشق
العزيزة نهلة:
أنا أصدقك ستفعلين.
15/1/67
سعد محمود. بيروت
بعد ان تلقيت رسالتك الأخيرة المكونة من ثلاث كلمات ذهبت للحمام أخرج كل ما في بطني لم أكن تناولت الطعام منذ أسبوع سوى القليل من الماء والعصائر لقد أصبت بوعكة صحية منذ 30/12 جلست في الحمام طوال اليوم، كانت أمي تضرب الباب بقوةٍ وهي تشتمك بأقبح الشتائم وتنهال عليك بأقسى الدعوات وأنا كنت أبكي وأصرخ وأقول لها لا تفعلي هذا وفي قلبي كنت ألعن أبوك وألعن الساعة التي عرفتك فيها، سعد يا مأساتي التي لا أعرف كيف أتت وكيف ذهبت، يا عنواني التائه، كلمة واحدة أريدها منك! فقط جواباً واحداً وحسب !! لم فعلت هذا؟،
خرجت ثاني يومٍ من الحمام والإعياء بادٍ عليّ أسرعت للبلد هائمةً على وجهي، اشتريت مظاريف وورقٍ كثير وطوابع وهرولت للبيت سريعاً، كنت منهارة يا سعد ولم أقوى على أن أكتب لك شيئاً فتحت القلم الأزرق الذي أهديتني إياه ومسكت الورقة وبدأت أرسم خطوطاً ودوائر وأروح بالقلم وأجيء على الورقة ثم كتبت كلمتين فقط "سعد يا سعد" لا كلماتٌ كانت ستسعفني ولا حروف! كان الألم أكبر من أن أخطه بمجرد جمل وكان حبي وخوفي لا يحددهما إطار الورقة فاكتفيت بالخربشة وباسمك الذي يصيبني بالمقتل! أرسلت الرسالة مع ابن صاحب البقال ليذهب بها إلى البريد، أمي كانت قد منعتني من الخروج من المنزل حتى لا أرسل إليك مجدداً ولكنني أعطيتها لابن البقال من الشباك، كنت أعد الأيام والأسابيع والشهور ولم أتلقَ منك أي رسالة، كل يومٍ أذهب إلى صندوق البريد وأعود باكيةً أشتمك وأضرب باب المنزل بقوةٍ وأدخل إلى غرفتي ولا أخرج منها وفي كل مرةٍ أسمع أمي تدعو عليك ولا أتحمل فأذهب لأُشاجرها
استيقظت الساعة الثانية فتحت خزانتي وأخرجت منها الصندوق الذي أضع فيه رسائلك وهداياك وزر قميصك الأزرق تسللت ابتسامةٌ في الدمع إليّ لا أعرف من أين أتت تذكره يا سعد! لقد سقط منك في محطة القطار وطلبت مني خياطته ولكنني أخذته وهربت وبقيت تقهقه حتى دخلت القاطرة ومضى القطار..
أين أنت الآن يا سعد! وفي أي قطارٍ مضيت، لماذا اتيت إذا كنت تنوي الرحيل
في بحر الذكريات الذي غرقت به تذكرت أنك لم تعدني ولو لمرةٍ واحدة بالزواج! أو البقاء معي !، لكنني كنت أدرك أكثر من الجميع أنك لم تكن تتسلى بي كما قالت أمي وأم محمود وخالتي أم توفيق! أنا أعرفك جيداً وأعرف أنك لست إلا رجلاً شهماً لا تكذب ولا تتسلى أنت أكثر حزماً من أن تفعل هذا، صحيح أنني توقفت عن إرسال الرسائل لك ولكنني طوال الوقت أحادثك! أحس بك هنا في جلدي في عروقي! في عيني وفي بكلة شعري!
نهلة:
على أيٍ منا أن يُقدم هو ليحيا الأخرون.
12/5/67
سعد محمود، عمّان .
25/5/67
كان الجو كئيباً يحمل لي شيئاً منذ بدايته، منذ الصباح وأنا أشعر بأنه لن يمر اليوم بشكلٍ عادي، ولكنني لم أكن أفكر بسعد فقد فقدت الأمل بأن يرسل لي مجدداً، لكن الأمور جرت رتيبة عادية إلا من وقع خُطى أمي المرعوبة المتثاقلة فتحت الغرفة وهي تلهث دفعته بقوةٍ ثم ركلته بقدمها، نظرت إليّ بحنقٍ وغضبٍ شديد
_ما الذي استفدناه نحن من سعد أنه لا يأتي إلينا إلا بالمصائب، الله يلعنه أينما وجد!
*أمي ماذا هناك؟ أين سعد؟
_هناك ضيفٌ غريبٌ يقول إنه من طرف سعد، رفض في البداية إلا التحدث إليك مباشرةً ولكنني قلت له أنني سأطرده ولن أسمح له برؤيتك إذا لم يخبرني من هو وماذا يريد.
كانت أمي تتحدث بانفعالٍ شديد، ولم أكن أفكر في ذلك الضيف ولا في أمي ولا في شيء سواك يا سعد
*أمي يكفيكِ، أين الضيف؟
_في الفناء
*لمَ لم تُدخليه! الجو حار.
_كان ينقصني فقط ضيوف المغضوب سعد.
خرجت بسرعةٍ أحمل قلبي على كفتايّ أعدو الخطوة تلو الخطوة، وما أن رأيت الضيف طويل القامة ذو العينين السوداوين الحادتين كالصقر، هبته في أول الأمر ولكنني كنت أسرع إليه أريد أن أضع قلبي بين يديه وأن أرجوه بأن يوصله لك يا سعد.
كان جريئاً، بادر بالتعريف عن نفسه، وأمي ترقب من بعيد وتستمع إلينا، أشار إليّ بأنه يريد التحدث معي على انفراد، تذمرت أمي ثم دخلت المنزل إلا ان رأسها لم يغادر النافذة العلوية.
_رافع الفواز من الأردن، معي رسالة من سعد لك، لم يكف عن توصيته لي بأن اعتني بكٍ.
*عفوًا!
_هذا ما قاله لي، هذه رسالةُ منه، هاكِ.
التقطت الرسالة كما يلتقط الظمآن الماء، لم أراعي وجود الشاب الغريب فأكتم لهفتي وولعي بأن أفتحها بسرعةٍ تمتمت بكلماتها القليلة صرخت بالضيف
_فقط! أنا انتظر منذ أربعة شهور، ما الذي يقصده بهذا؟
انهرت باكيةً، تمسمر الشاب في مكانه لم يدرَ ما يقول، نزلت أمي مسرعةُ تسب رافع وتشتم سعد وتدعو حتى عليّ أنا ، تدخلت وهي تصرخ به
_ما الذي تريدونه من هذه الفتاة المسكينة !!، اتركوا ابنتي وشأنها، ارحل من هنا هيا اخرج، وقلّ للحقير سعد أنني سأدعو الله عليه في كل ركعة بأن يكسر قلبه كما كسر قلب ابنتي.
وعلى غير المتوقع صرخ رافع بها قائلاً:
_من هو الحقير ها !؟ سعد؟ لم أرى في حياتي من هو أشهم وأرجل منه، أنتم لا تعرفون ما الذي يقاسيه هذا الشاب الذي يحمل على رأسه كل هموم الكوكب!
تَلجّمت أمي ولم تُعقب سَحبت كرسياً وجلست عليه تسحب نفساً من السماء، انهمرت دموعي وسط ابتسامة رضا عن ذاك البعيد الذي رحل بدون أعذار، ارتاح قلبي لفكرةِ أنه مجبرٌ على المُضي في دربه دوني!
قطع شرودي صوت رافع الجهوري
_نهلة، أنا سأكون بالجوار سأستأجر منزلاً في آخر الحي.
*لمَ؟
_لأنني وعدت سعدًا، ألا أتخلى عنكِ.
*هل هو بخير؟
_نعم
*تكذب
_انفلونزا فقط.
مضى رافع في طريقه، شابٌ خلوق، ارتحت له، ربما لأنه من طرفك يا سعد!
5/10/67
كان الراديو يصدح بالأخبار، ثم قالها المذيع ببساطة: "لقد قامت الحرب"
كان القلق سيد الموقف دمشق كلها كانت شاحبة مرعوبة، وجوه الناس لا تنم إلا عن أملٍ خائفٍ متوجسٍ، لقد كنا سُذّجاً بطريقةٍ تدفعنا للموت بأي طريقة من أجل استعادة ما تبقى من كرامتنا التي هُدرت في الــ 48 والـ56 وما كان باليد حيلة سوى أن نتمسك ولو بآمالٍ كاذبة.
7/10/67
انسللتُ إلى غرفتي أخرجت آخر رسالةٍ من سعد قرأت الجملة الأولى وكأنني أقرأها للمرةِ الأولى، تمتمتها، عدتها بصوتٍ أعلى "على أيٍ منا أن يُقدم هو ليحيا الآخرون "! ما الذي يريد أن يفعله سعد، وماذا قصد بهذا !! شعرت أن قلبي يكاد أن يتفطر، لماذا يفعل هذا؟، لمَ لا يوضح لي الأمور وفي وسط القصف هرولت إلى الشارع ابحث عن المنزل الذي استأجره رافع، ضربت الباب بقوةٍ، خرج منتقع الوجه
_نهلة
*على ماذا ينوي سعد! أنا أعرفه لا تكذب!
_لا أعرف، لماذا تقولين هذا؟
*أرجوك يا رافع أرجوك، لا أحتمل!
_صدقيني لا أعلم
في الأسبوع التالي، انتبهت أن رافع لم يزرنا ابداً، افتقدته، رافع كان نبيلاً شهمًا، أحبته أمي مع أنه صديق سعد الذي لا تطيق سيرته، ذهبت إلى بيته فلم أجده، أخبرني الجيران بأنه ترك لي رسالة منذ أسبوع.
العزيزة نهلة:
أنا ذاهبٌ إلى الأردن، أعتني بأمك وبنفسك، سأعود مجددًا.
رافع
لم أكن مرتاحةُ، كنت أشعر أن هناك شيئًا غير عادي، إن أمرًا جللاً سيحدث، قلبي لم يكن يكذب.
20/10/67
على الفطور، جلست أنا وأمي نتحدث بآخر الأخبار، لم أكن سوى جسداً يُحاول أن يتعايش، قالت أمي "يقولون إن هناك عدة عملياتٍ حدثت في الليل على الحدود ما بين الأردن وفلسطين. سأفتح الراديو لعل وعسى تكون الأخبار قد وصلت، وما إن أدارت المفتاح حتى اتانا صوت المذيع
" عملية نوعية لم تحدث من قبل قام بها مجموعة من الفدائيين الأبطال على الحدود الأردنية الفلسطينية اسفرت عن تفجير عدة جيبات وقتلى وجرحى في صفوف العدو" كان الخبر جيداً بالنسبة لي ولم أشعر بوقعه على نفسي حتى أردف قائلاً "واستشهاد منفذو العملية" فوصل قلبي إلى حنجرتي وأصبت بغثيانٍ شديد هرولت إلى الحمام ولحقتني أمي.
_نهلة ما بكِ؟
*أمي، سعد يا أمي سعد
_ما به؟
*لقد قتلوه انا متأكدة
_ماذا تقصدين؟، ذاك الجبان لم يجرؤ على أن يتزوجك فهل سيذهب ليقتحم صفوف العدو!؟ .
حاولت تكذيب نفسي كانت الشوارع صاخبةُ بالأحداث الجديدة والفخر على كل لسان سمعت من الجميع كيف حدثت تلك العملية الفريدة حتى من الأطفال، جاء إليّ جواد طفلٌ ذكي وشجاع قال لي ببراءته:
_ أتعرفين كيف حدثت العملية؟
*سمعت ولم أركز، كيف؟
_ لقد دخل ثلاث رجال منا نحن إلى معسكر اليهود بالخفاء لقد تسللوا تسللاٌ تقول جدتي إن الأمر خطيٌر ولولا عناية الله وبركات الشيوخ ودعواتهم ما نجح الأمر، لقد كانوا يحملون القنابل والمسدسات والخناجر وفجروا الكثير من الجيبات وقتلوا الكثير وجرحوهم ثم استشهدوا
ثم اقترب وهمس في أذني: عمي كان هناك يقول إن الشهداء لم يجدوا منهم شيئاً، أشلاء!
30/5/67
جاء رافع وأخيراً، دخل البيت مسرعاً إليّ أنا وأمي بالفناء، على وجهه التعب واليأس لم ارى في حياتي تقاسيم وجهٍ بذاك التعب والحزن، سألته أمي:
_أين كنت !؟
*في الأردن
_ماذا فعلت؟ لمَ تبدو بهذا الإرهاق!؟
*في المعسكرات، لقد غطينا الكثير من المعارك برشاشتنا الخفيفة وخناجرنا الضعيفة وأغانينا المكلومة نشجع بعضنا، لكنني عشت من أجل سعد، ووعدي الذي قطعته.
_ماذا تقصد؟ سعد كان معك؟ الجبان؟
نظر إليها والدموع تجري في تقاسيم وجهه المليء بالغبار، عيونه احمرت كالدم، طفق يبكي كطفل ، كانت عيناه ملجأً للحزن ، أعطاني رسالةً وفر مني ومن دموعي التي لن تتوقف .
____
الحبيبة نهلة:
لقد عشتِ كما عشتُ في المخيم كما عاش الآلاف وسيعيش بعد! من سيغير واقع هؤلاء الصغار، من ذا الذي سيؤمن لهم لقمةً كريمة بعيدة عن أكياس الأونروا، وألواح الزينقو التي تغطي رؤوسهم من وقع المطر هذا إذا وجودوا جدراناً وليس خيامًا، لقد غير واقعك أخوك الذي هرب إلى الكويت كما هرب أخي الأكبر!
لن أقف مكتوف الأيدي أكتفي بالنظر، أنتِ تعرفين أنني لا أستطيع الصمت والخنوع! كما لم أكتفي بتركك وحدك دون أن أطلق سهام حبي في قلبك البريء كطفلٍ، أنتِ وطني يا نهلة وهو أنتِ وقد متُ فيكما!
لا وقت لدي، عليّ الذهاب الآن إلى حتفي، أنني أخطط للأمر منذ شهور بل سنين، مُذ كنت طفلاً يضع رأسه على وسادةٍ قذرة تحت خيمة مهتّكة.
سأعطي الرسالة لرافع، أنه شابٌ شجاع قوي، هو عنيد ولكنه طيب القلب وستحبون بعضكم.
سامحيني.
20/10/67
سعد محمود، الحدود الأردنية الفلسطينية