الآن كما يقول المأثور الشعبي "راحت السكرة وجاءت الفكرة"، حيث سقطت كل الرهانات الفلسطينية والعربية والدولية على سقوط اليمين الصهيوني في الانتخابات، وبالتحديد رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو"، والذي تعرض لحملات إعلامية شرسة من قبل قوى إسرائيلية وأخرى دولية، متهمة إياه بتدمير الدولة ومصالحها، وتخريب وتشويه صورة وعلاقات إسرائيل الدولية، وخصوصاً بعد أن أذل الرئيس الأمريكي "اوباما" في عقر داره، وأذل معه كل التوابع العربية التي تتعامل مع أمريكا على قاعدة الدونية والاستجداء، ورهن مصالحها وقراراتها وإرادتها ل"السيد" الأمريكي، وثبت بشكل قاطع لكل الفلسطينيين والعرب بأن "الثور لا يحلب" وبأن "الدبس لا يطلب من قفا النمس".
انتهت الانتخابات الإسرائيلية المبكرة، وواضح أن قوى اليمين الإسرائيلي المتطرف قد حققت فوزاً ساحقاً في هذه الانتخابات، وبالذات حزب الليكود بزعامة الملك نتنياهو (30) مقعداً، يضاف لذلك البيت اليهودي برئاسة نفتالي بينت (8) مقاعد و"كولانو" برئاسة موشيه كحلون (10) مقاعد و"إسرائيل بيتنا" برئاسة ليبرمان (6) مقاعد، يضاف إلى ذلك الأحزاب الدينية "شاس" و"يهوديت هتوراه" (14) مقعداً، وبالتالي فإن نتنياهو ومعه هذا الطيف السياسي الواسع اليمني المتطرف، هو الأكثر حظاً لتشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة، ليس فقط حكومة يمينية ضيقة، بل لديها أغلبية واسعة ومريحة، ستعتمد عليها في تمرير أية قرارات أو تشريعات أو قوانين يجري سنها وتشريعها، تحديداً في الجوانب السياسية والأمنية، وهذا ليس مربط الفرس، ولكن ما يثير استغرابي سذاجة وسطحية بعض التحليلات والتمنيات للعديد من الكتاب والقادة الفلسطينيين والعرب، والتي ترى بأن التطور الدراماتيكي والتغير الأبرز هو القوة العربية الموحدة في الكنيست (14) مقعداً، وكذلك الرهان على المعسكر الصهيوني "هرتسوغ ليفني"، بأن فوزه، هو بمثابة تحطيم لليمين الإسرائيلي، أو انقلاب جذري في السياسة الإسرائيلية، والبعض العاجز فلسطينياً وعربياً، كان ليس فقط يتمنى أن تفوز ما يسمى بقوى الوسط واليسار الصهيوني ليفني- هرتسوغ مع التحفظ على التسمية، بل كان يهلل ويطبل ويزمر فرحاً وابتهالاً، وكان هذا المعسكر سيسلم مفاتيح القدس، وسيقتلع كل المستوطنات من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام/1967، وسيمنح العرب في الداخل الفلسطيني حقوقهم كأقلية قومية في دولة الاحتلال.
أما فيما يخص القائمة العربية الموحدة التي أوصى قادتها للمعسكر الصهيوني هرتسوغ- ليفني بتشكيل الحكومة الصهيونية القادمة، وذهب رئيسها الرفيق أيمن جوده بعيداً في تخيلاته، في تصريحه لفضائية الميادين، بأنهم حققوا الهدف من هذه الانتخابات بدفع نتنياهو إلى خانة المعارضة، فواضح بأنه رغم ما يشكلونه من قوة انتخابية ثالثة في الكنيست، فإنهم لن يستطيعوا التأثير في السياسة الإسرائيلية وبالذات في القضايا والقرارات ذات البعد الإستراتيجي سياسيا وأمنياً، وإذا ما قدر لهذه الوحدة أن تستمر وفق برنامج موحد متفق عليه، فيمكن لها أن تحد وتلجم من "تغول" و"توحش" اليمين المتطرف الإسرائيلي تجاه حقوق شعبنا في الداخل الفلسطيني.
وقبل القراءة لهذه النتائج فإنني أود التأكيد على حقائق ثابتة في الفكر الصهيوني، وتتبناها وتؤمن بها كل ألوان الطيف الإسرائيلي من أقصى يسارها إلى أقصى يمينها، ألا وهي أن الاستيطان مرتكز أساسي وعامل رئيسي وجوهري في كل برامج الأحزاب الصهيونية، وهي بمثابة الثابت لا المتغير، وأي حزب يحاول أن يقفز عن هذا الثابت، فهو يدرك تماماً بأنه منتحر سياسياً، ويخسر وجوده في البرلمان "الكنيست" ويعزل جماهيرياً، ولذلك كان هذا الثابت البند الأساسي في دعاية أغلب إن لم يكن جميع الأحزاب الصهيونية، والعديد منها بدأ دعايته الانتخابية بزيارة المستوطنات، أو القيام بزيارة استفزازية للمقدسات الإسلامية الأقصى والمسجد الإبراهيمي، أو إطلاق تصريحات تؤكد على قدسية الاستيطان وعدم التنازل عن القدس أو حتى السماح بإقامة دولة فلسطينية غربي نهر الأردن، تصريحات نتنياهو في مهرجان الأحزاب الإسرائيلية اليمنية في تل أبيب "متحدون من اجل أرض اسرائيل الكاملة".
أما المركب الثاني الثابت في كل برامج الأحزاب الإسرائيلية أنها جميعاً ترفض حق العودة للشعب الفلسطيني، وحتى أكثر الأحزاب الإسرائيلية يسارية لا تصل إلى حد الإقرار والاعتراف بالحدود الدنيا من حقوق الشعب الفلسطيني في الدولة المستقلة في حدود الرابع من حزيران.
والثابت الثالث، هو أن الأحزاب الإسرائيلية، ترى بان العرب يخضعون بالقوة فقط، ولذلك كل حزب يريد أن يحقق نتائج سياسية وشعبية وتمثيلا أوسع واكبر في البرلمان "الكنيست" والحكومة، يرى الطريق إلى ذلك من خلال الإيغال في الدم الفلسطيني والعربي، عبر ارتكاب الجرائم والمجازر وتوسيع القمع والإذلال وامتهان الكرامة لشعبنا الفلسطيني.
أثبتت نتائج الانتخابات أن المجتمع الإسرائيلي، مجتمع يمني متطرف ويشهد انزياحات واسعة نحو التطرف والعنصرية، وأثبتت كذلك بأن المحرك الرئيسي في صنع السياسة الإسرائيلية العامة، لم يعد الأمن، بل هو واحد من تلك العوامل، وبأن المقرر الأساسي في ذلك هو الاستيطان، وقد استطاع أنصار التيار الصهيوني الحاكم، قوى اليمين المتطرف، المؤمنين بأن الظروف الفلسطينية والعربية والدولية مواتية لهم، من أجل الاحتفاظ بالأمن والاستيطان والسلام معاً، أن يحققوا نصراً كبيراً على أصحاب نظرية الأمن المحرك الأساسي للسياسة الإسرائيلية، ومن الدلالات الهامة في هذه الانتخابات أيضاً السقوط المدوي لوسائل الإعلام الإسرائيلية والاستطلاعات الموجهة، والتي أخضعت الناس وصورت الأمور على أن نتنياهو والليكود لن يحصلوا على عشرين مقعداً، حتى أن نتنياهو نفسه لم يتوقع النصر الذي حققه، فهو مهد لخسارته بالقول عن دعم خارجي من اجل إسقاطه.
الآن لن يفيد التذاكي ولا التباكي ولا الندب، الحقيقة عارية، وليست بحاجة إلى انتظار أو رهان، علينا أن نغادر خانة رهن حقوقنا وقضيتنا وثوابتنا على من سيفوز في الانتخابات الأمريكية والإسرائيلية فهذا الخيار والرهان ثبت عقمه وفشله وعدم واقعيته، فكم مرة تغيرت الحكومات الأمريكية والإسرائيلية، وكنا نطلق التمنيات أن يفوز فلان أو علان من المرشحين في الانتخابات الإسرائيلية والأمريكية ومن أحزاب مختلفة، حتى وصلت بنا الأمور إلى حد دعم ومساندة العديد من المرشحين، ومن بعد فوزهم نكتشف بأن شيئاً لم يتغير.
إن الخلاف بين الأحزاب الإسرائيلية ليس جوهرياً في القضايا الإستراتيجية والسياسية والموقف من حقوق شعبنا الفلسطيني، بل هي أدوار تلعب، اليمين المتطرف يعبر عن مواقفه بشكل واضح وصريح، وما يسمى بالوسط واليسار، يعبرون عن نفس المواقف ولكن مغلفة بدبلوماسية، الاستيطان، القدس، اللاجئين، الكتل الاستيطانية الكبرى.
ما العمل؟؟ وبماذا سنرد على نتنياهو الذي قال لا انسحابات ولا دولة فلسطينية غرب نهر الأردن ولا تقسيم للقدس، الرد يجب أن يكون إعلان رسمي من القيادة الفلسطينية بالانتهاء الكلي من المرحلة الانتقالية، التي بدأت عام 1994 وان دولة فلسطين ستصبح الواقع السياسي الجديد، بدلا للتكوين الانتقالي الذي طال أمده 21 عاما..
من هنا تبدأ رحلة العمل، رحلة تبدأ بتعطيل كل الاتفاقات مع دولة الكيان من التنسيقات المختلفة الأشكال إلى سحب الاعتراف بدولة الكيان، وسابقة لخطوة الذهاب للجنايات الدولية، أو أي خطوات أخرى.
لا بد من رسم إستراتيجية فلسطينية شاملة وموحدة بعيدة عن لغة المناكفات و"الجعجعات" و"الهوبرات"، إستراتيجية تفرض حضورا حقيقيا لفلسطين في مواجهة المشروع العنصري الاحتلالي.
كما يقال انتهى الدرس يا غبي، زمن الفذلكة والفهلوة، والحياة مفاوضات، انتهى..ولم يعد هناك مجالا للبحث عن الحجج والذرائع، والتغني بالواقعية والعقلانية، نتنياهو تحدث في كل شيء وأعلن كل شيء، وكما يقول المأثور الشعبي "قطعت جهيزة رأي كل خطيب".. انتهى الوهم يا سادة.. نتنياهو بات واقعا أمامكم فلا مناص من أن تقرروا ما يجب أن يكون لقضيتكم وشعبكم ومصالحكم الوطنية العليا، والتاريخ لن يرحم المتخاذلين أبداً..!