ثمة تساؤلات تطرح بعد خطوة السلطة الفلسطينية بالانضمام إلى حوالي عشرين مؤسسة ومنظمة دولية، من ضمنها محكمة الجنايات الدولية، هل ستقدم إسرائيل على تفكيك السلطة الفلسطينية وتتحمل التبعات المترتبة على هذا التفكيك؟؟ أم انه ستعمل على ردع السلطة، تغيير قيادتها والتأكيد على دورها الوظيفي والخدماتي؟؟؟، وهل الطرف الفلسطيني جاهز لحل السلطة أو قانع بضرورة حل السلطة ووقف التنسيق الأمني، تمهيدا لتغيير دور ووظيفة السلطة، أم أن الطرف الفلسطيني الذي هدد فيه أكثر من مسؤول في السلطة بوقف التنسيق الأمني رداً على الإجراءات والممارسات والاعتداءات الإسرائيلية، سيبقي هذه الخطوة في إطار التهديد والضغط فقط؟؟ تمهيدا لمتغيرات وضغوط دولية وإقليمية تساعده بالعودة إلى طاولة المفاوضات مجدداً بشروط محسنة.
هذه الأسئلة بحاجة إلى إجابات شافية ومعللة استناداً لعملية تحليل ملموس للواقع الملموس، فلعلنا ندرك حاجة الأحزاب الإسرائيلية بمختلف تلاوينها الحزبية، وبالذات الليكود الذي يتزعمه نتنياهو، إلى أن تكون الورقة الفلسطينية والدم الفلسطيني والخطوة الفلسطينية بالانضمام والعضوية إلى وفي محكمة الجنايات الدولية، التي ستصبح نافذة اعتباراً من نيسان القادم، وكذلك الأوضاع الأمنية وبالذات في مدينة القدس،حاضرة في البرامج والمزايدات الانتخابية بين تلك الأحزاب التي ستخوض الانتخابات في السابع عشر من آذار القادم، وخصوصاً أننا نشهد مشهد إسرائيلي مضطرب يعاني من السيولة الانتخابية، وكذلك غياب الحزب القائد والنموذج القيادي، حيث تهم الفساد والرشوات واللصوصية والسرقات، تلاحق معظم قادة الأحزاب الإسرائيلية، والتي تتكشف كأحزاب يقودها لصوص ومجرمين وتجار.
"إسرائيل" ردت على الخطوة الفلسطينية بتجميد تحويل نصف مليار دولار من عائدات الضرائب إلى السلطة الفلسطينية، وكذلك حركت مجموعة من المنظمات غير الحكومية الأوروبية والأمريكية المرتبطة بها، من أجل رفع قضايا أمام محكمة الجنايات الدولية، كالتي تنوي رفعها منظمة "سلطة القضاء" على ثلاثة من قادة السلطة الفلسطينية بتهم ارتكاب جرائم حرب ضد مواطنين ومصالح إسرائيلية في إطار الضغط على السلطة،لكي تتراجع عن خطوتها بالطلب من المحكمة الدولية التحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية بعد 13 حزيران/2014، وكذلك حركت اللوبي الصهيوني "الإيباك" في واشنطن وأنصارها في "الكونغرس" الأمريكي، من أجل العمل على قطع المساعدات الأمريكية المقدرة بحوالي (400) دولار سنوياً للسلطة الفلسطينية، وهي ستلجأ إلى سلسلة أخرى من العقوبات، مثل منع التسهيلات وتقيد حرية الحركة والتنقل لقادة السلطة.
"إسرائيل" تدرك تماماً أنها تعيش في منطقة مضطربة،حيث الفوضى تعم محيطها العربي، وبالتالي حل السلطة من شأنه أن ينقل تلك الفوضى والقوى المتطرفة إلى داخل البيت الإسرائيلي، ويلقي عليها أعباء أمنية كبيرة،وكذلك حل السلطة يعني عدم قدرة السلطة على دفع رواتب أكثر من (160) ألف موظف تشغلهم، ناهيك عن أن الحرب العدوانية الأخيرة على قطاع غزة ترتب عليها في ظل استمرار الحصار وعدم تنفيذ برامج الإعمار،مشاكل اقتصادية واجتماعية، وإذا ما أضفنا إلى ذلك عدم قدرة السلطة على دفع الموازنات والمصروفات التشغيلية لوزاراتها ومؤسساتها وأجهزتها، فهذا يعني بأن أزمات كبيرة جداً ستحدث، تفكك السلطة وتضعف من قدرتها على السيطرة على الوضع، لتحل محلها سلطة المافيات والمليشيات بمختلف مسمياتها، وخصوصاً أن قدرة القوى الفلسطينية بمختلف تلاوينها على ملء البديل والفراغ غير متوفرة، فهي غير جاهزة وتعاني من أزمات عميقة، وهذا ما نلمسه من خلال الهبات الجماهيرية في مدينة القدس، حيث فعلها ودورها محدود جداً.
لا يوجد توافق في "إسرائيل" أيضاً أن السطو على عائدات الضرائب ووقف تحويلها للسلطة الفلسطينية خطوة ناجحة في ردع السلطة الفلسطينية، فحتى رئيس الدولة ريفلين قال: "إن تلك الخطوة غير مجدية"، وكذلك الأمريكان والاتحاد الأوروبي انتقدوا تلك الخطوة، معتبرين أن من شأنها أن تؤدي إلى رفع مستوى العنف وتدهور الوضع وانزلاقه إلى مرحلة خطيرة.
في ظني أن "إسرائيل" ستواصل تعطيل تحويل أموال الضرائب للسلطة الفلسطينية لفترة محدودة، ومن ثم ستفرج عنها، ولكن أغلب الظن بان الحكومة الإسرائيلية ستتعامل مع السلطة الحالية وفق ما تعاملت مع الرئيس الراحل أبا عمار، من حيث شن حملة إعلامية وسياسية عليه بأنه داعم لـ"الإرهاب" وغير جدي في صنع "السلام" وقيادته ضعيفة وغير مسيطرة على الوضع، والتهديد بجعل حماس تسيطر على الضفة الغربية واستمرار البحث عن البديل، وقد شرعت القيادة الإسرائيلية في إطار تهربها من دفع أية استحقاقات جدية من أجل السلام في ذلك، حيث يجري الحديث عن لقاءات بين قادة إسرائيليين وآخرين فلسطينيين من خارج السلطة الفلسطينية، وكذلك اللوبي الصهيوني الأمريكي من أمثال دنيس روس ومارتن انديك الخبيران في المنطقة، يساهمان في شن الحملة على السلطة الفلسطينية، حيث قال روس المتصهين في مقالة له: "إن السلطة أفشلت الوصول إلى اتفاق للسلام من خلال المفاوضات ثلاث مرات".
"إسرائيل" ستعمل في المرحلة الحالية على ردع السلطة الفلسطينية،تغيير قيادتها والتأكيد على دورها الوظيفي الخدماتي، وهي لن تقدم على تفكيك السلطة إلا إذا تبين لإسرائيل أن "التنسيق الأمني" الذي هو أحد أهم الوظائف والالتزامات التي يتعين على السلطة الوفاء بها بموجب اتفاقات أوسلو وما بعدها، إحجامها عن أداء هذا الدور، فإن احتمال "تفكيكها" سيقفز إلى صدارة الأولويات الإسرائيلية، وعندها لن تقبل تل أبيب بمجرد وقف تحويل أموال الضرائب الفلسطينية، بل ستخطو خطوات إضافية على طريق الانقضاض على السلطة ومؤسساتها.
السلطة الفلسطينية لن تحل نفسها من جانب واحد استناداً إلى جملة من الاعتبارات، يقف في المقدمة منها صراع النفوذ والمصالح والامتيازات والتقاتل على السلطة، ولذلك حل السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، لا يستتبعه حل لها في القطاع، حيث حماس من يسيطر هناك، وبالتالي مثل هذه الخطوة تعزز من نفوذ وحضور وسطوة وسيطرة حماس، وتقلل من حضور ونفوذ فتح وسيطرة فتح على الوضع، والحل قد يؤدي إلى استقلال حماس في "إمارة" غزة، وهذا من شأنه أن يقضي على الحلم الفلسطيني في الدولة المستقلة والعودة وتقرير المصير، وهذا تحقيق للمشروع الإسرائيلي في الدولة الفلسطينية ذات الحدود المؤقتة.
وقضية أخرى على غاية من الأهمية، فالحل للسلطة يعني بأنه على قيادة السلطة المواجهة ودفع الثمن اعتقالات وسجون ومطاردة وغيرها، فالعواصم العربية في هذا الزمن لن تكون مفتوحة أمام القيادة الفلسطينية، فالظروف والأوضاع العربية تغيرت كثيراً، لا الأردن ولا لبنان ولا تونس ولا حتى الدوحة ستكون جاهزة لاستقبال القيادة الفلسطينية ولربما تكون دمشق التي تكون جاهزة ولكن لا ترغبها السلطة الفلسطينية.
خيار السلطة وبقائها على كل علاتها، وبعد ربطها لأكثر من (160) موظف بمؤسسات النهب الدولية "البنك والصندوق الدوليين" قروض من أجل السكن والبناء والزواج والرفاهية وغيرها، يجعل مثل هؤلاء الموظفين يتمسكون باستمرار وجود السلطة، ويجعلها تحظى بقاعدة شعبية نسبية تؤيد بقاءها واستمرارها.
لا "إسرائيل" ولا المجتمع الدولي يقبل بتفكيك السلطة، كل لأسبابه، إلا في حال التوافق على بديل يملئ الفراغ؛ بديل إقليمي يقبل أولاً ثم يكون جاهزاً ثانياً، ولا يبدو أن ثمة بديل جاهز على الأقل، ما يبقي "إسرائيل" مع خيار التأكيد على بقاء السلطة اقتراناً بدورها الوظيفي الخدماتي، فحرب "إسرائيل" تنحصر على الإبقاء على الدور الوظيفي للسلطة، كسلطة حكم إداري ذاتي على السكان وليس على الأرض والموارد.