أعرف ان الحقيقة مرة، ولكن يجب أن تكون عارية أمام الناس، فكما قلت سابقاً السلطة غير قادرة ولا تمتلك قرار ولا خيار وقف التنسيق الأمني، وفي ظل الجبرية الفرعونية للقيادة العربية دول وقوى وأحزاب وحركات، القيادة هي ليست صاحبة قرار لا لجنة تنفيذية ولا لجنة مركزية ولا الاثنتين معاً، هي هيئات للتشاور والمصادقة على قرارات مؤسسة الرئاسة، وليس لاتخاذ القرار، فمن يقرر مؤسسة الرئاسة وبشخص الرئيس، ولعل الجميع يتذكر جيداً العودة للمفاوضات والتي استمرت لمدة تسعة شهور قبل أن تصل إلى نفس النتيجة صفر لصالح الفلسطينيين ومزيداً من الربح لصالح "إسرائيل"، المزيد من "التوحش" و"التغول" في الاستيطان، والحرب الشاملة على القدس والمقدسيين..الخ، الفصائل والأحزاب واللجنة التنفيذية وكذلك المركزية، كانت ضد العودة للمفاوضات، ولكن رغم كل ذلك جرت العودة.
واليوم تتعالى الأصوات على خلفية جريمة قتل الشهيد القائد أبا عين من داخل اللجنة المركزية لحركة فتح واللجنة التنفيذية وكل القوى والأحزاب لوقف التنسيق الأمني، وكما تعودنا على حال قيادتنا في"فورة الدم" التي تأتي بعد الجريمة يكون الصوت ملعلعاً وعالياً، وصيحات ودعوات الانتقام كثيرة وحادة، وسيكون الرد مزلزلا ومجلجلا، ولنكتشف لاحقا بأن "الجبل تمخض فولد فأراً"، فبعد الحديث عن وقف التنسيق الأمني، بدأت لغة أخرى في الحديث، وهي بأن كل الخيارات مفتوحة، وطبعاً خيار وقف أو تجميد التنسيق الأمني، لم يعد مطروحا، بل بعد المحادثات مع الملك عبد الله الثاني واتصالات السيسي وكيري والأوروبيين وغيرهم، يجب علينا أن نتصرف بـ"حكمة و"عقلانية"، والحكمة والعقلانية، وأن لا نجعل إسرائيل وأمريكا تستفيدان من مثل هذه الخطوة "الرعناء" و"الطائشة"، وأن نستمر في التنسيق الأمني، لكي نثبت لأمريكا وأوروبا بأننا جديرين وراغبين في العيش بسلام إلى جوار دولة الاحتلال، في الأرض والمساحة التي تتكرم بها علينا، ومن أرضنا المسروقة والمنهوبة.
الاعترافات الشعبية من قبل البرلمانات ومجالس العموم والشيوخ الأوروبية والاشتراكية الدولية والبرلمانيين الأوروبي والبرتغالي، ومن قبلها حكومة السويد بالدولة الفلسطينية، هي تطورات سياسية مهمة، وتأتي في ظل حالة تمرد شعبي أوروبي على حكوماتها لتبعيتها وتذيلها للمواقف الأمريكية من مسألة الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وازدواجية وانتقائية مواقفها من قرارات الشرعية الدولية، وهي حتماً تشكل عوامل ضاغطة على الحكومات الأوروبية من أجل أن تصحح مواقفها، لجهة أن تكون أكثر توازناً في مواقفها وقراراتها من هذا الصراع، وأمريكا باتت تدرك انه في ظل ما تقوم به حكومة الاحتلال من إجراءات وممارسات قمعية بحق الفلسطينيين، وكذلك ما يجري اتخاذه من قرارات وسنه من قوانين وتشريعات عنصرية، أصبح كل ذلك يشكل تهديداً جدياً لحل الدولتين، ونهاية للمشروع السياسي، الذي تتغنى به أمريكا ودول أوروبا الغربية، حل الدولتين، وخاصة مع طرح نتنياهو لقانون يهودية الدولة.
وكذلك فهي تواجه معضلة في توجه الطرف الفلسطيني إلى مجلس الأمن الدولي، من أجل الحصول على قرار منه بتحديد سقف زمني لانسحاب الاحتلال من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام/1967،وأمريكا وأوروبا الغربية، ليستا مع هذا الخيار، ووقفهما ضده أو اتخاذ حق النقض "الفيتو"، يعني بأن السلطة الفلسطينية ستحشر في الزاوية، وبالتالي ستصبح غير قادرة على مواجهة الضغوط الداخلية من داخل فتح قبل غيرها لاتخاذ مواقف أكثر تشدداً قد تطيح بكل المشروع المطروح، وتعود الأرض الفلسطينية إلى دائرة الانتفاضة من جديد، ولذلك جاء المشروع الفرنسي ليطرح ويقدم باسم الاتحاد الأوروبي كبديل عن المشروع الفلسطيني بالتوجه لمجلس الأمن الدولي، وطبعاً السلطة الفلسطينية لم ترفض المشروع الفلسطيني، وعريقات مهندس المفاوضات، قال بأنه تجري دراسة معمقة للمشروع الفرنسي، وكيري يجري محادثات مع نتنياهو حول ذلك في روما، وحركة اتصالات عربية ودولية مع السلطة الفلسطينية، لكي تسحب مشروعها وتوافق على المشروع الفرنسي، والحجة المطروحة في حال الموافقة عليه، بأنه علينا أن لا نخسر الدعم والتعاطف الدولي معنا، من خلال الاعتراف الشعبي الأوروبي الواسع بالدولة الفلسطينية، ونحن إذ نعي أهمية مثل هذه الاعترافات، ولكنها تبقى في الإطار الرمزي، والموافقة على المشروع الفرنسي، ستدخلنا في دهاليز المفاوضات المارثونية العبثية من جديد، ونعود لـ"تجريب المجرب"، فالمشروع الفرنسي المطروح علينا للموافقة عليه، يتضمن العودة للمفاوضات مع "إسرائيل" لمدة عام ونصف إلى عامين، وتحت الرعاية الأمريكية الكاملة، وأن تكون القدس عاصمة لدولتين، وفي النهاية تقوم دولة فلسطينية بعد تبادل أرض متفق عليه، ويراعي الأمن الحيوي لـ"إسرائيل".
وفي نظرة فاحصة للمشروع الفرنسي، لا يتطرق إلى "توحش" و"تغول الاستيطان، وسياسة العقوبات الجماعية، هدم منازل المقدسيين، تهويد القدس، محاولات التقسيم الزماني والمكاني للأقصى، طرد وترحيل جماعي..الخ، وفي الحديث عن الفترة الزمنية، فالمشروع الفرنسي يتحدث عن فترة جديدة للمفاوضات، وليس عن فترة تلزم بها "إسرائيل" بإنهاء الاحتلال، وبما أنه لا يجري الحديث عن عقوبات وخطوات إلزامية في حالة فشل المفاوضات، فهذا يعني بأننا سنعاود الدوران من جديد في نفس الحلقة المفرغة، ولكن بخسارة وضرر أكبر على قضيتنا وحقوقنا ومشروعنا الوطني.
مؤسسة الرئاسة صاحبة القرار، قفزت عن اتخاذ قرارات مصيرية، في قضايا أصعب وأكبر من جريمة اغتيال الشهيد أبو عين، حرق وتدمير قطاع غزة، حرق الشهيد الفتى أبو خضير حيا، إغلاق المسجد الأقصى وغيرها، ولذلك من غير المنتظر بأن تكون هناك قرارات مصيرية، ولا خيارات مفتوحة، لأن الصراحة السياسية بين "القيادة – الرئاسة" وشعبها لم تعد هي "سيدة الموقف"، فالاعتقاد أن لا يكون هناك أي خيار وطني فلسطيني، بل لن يكون هناك أي "قرار فلسطيني مستقل"، دون تنسيق واتفاق مسبق مع أمريكا أولا، ومع العربان ومشيخات النفط والكاز ثانياً، ومع أوروبا الغربية ثالثاً.
ولذلك علينا أن لا نحلق بعيداً وعالياً، فمشروع "أوسلو" حتى اللحظة لم ينتهي، وجوهره التنسيق الأمني واتفاقية باريس الاقتصادية، وإلغاء هاذين البندين يعني نهاية المشروع وبداية حقبة ومرحلة جديدة، والسلطة لا تملك لا الجاهزية ولا الأدوات ولا الرؤيا ولا الإستراتيجية ولا القرار لمثل هذا الخيار، وعلى الصعيد الدولي هي أميل للموافقة على المشروع الفرنسي، وستؤجل تقديم مشروعها لمجلس الأمن الدولي.