27 عاماً مضت على تفجّر الانتفاضة الفلسطينية الأولى، التي انطلقت شرارتها من شمال قطاع غزة، واتسمت بالأداء الشعبي وملامح العصيان المدني الجارف، الذي طال أكثر ما طال صورة إسرائيل عالمياً، فجعلت رئيس وزرائها الأسبق اسحاق رابين، يتمنى لو "استيقظ يوماً فرأى غزة قد ابتلعها البحر".
وبيد أن القطاع الصغير الذي لا تتجاوز مساحته 360 كيلومترا مربعاً، لم يبتلعه البحر كما تمنى رابين، كما لم تقو أمواج العدوان الإسرائيلي والحروب المتوالية على تكسير صموده، فبقي أداؤه المقاوم فارقاً عن بقية أماكن التواجد الفلسطيني، فإنه شكّل إحدى جدليات القضية الفلسطينية التي تبرز في ذكرى "انتفاضة الحجارة"، جنباً إلى جنب مع جدلية المقاومة وتعريفها وتأطير حدودها.
وفيما استمرت جذوة الانتفاضة مشتعلة وشاملة طيلة السنوات الأربعة الأولى من اندلاعها وحتى عام 1991، فإن دخول عمليات مسلحة إلى مسارها من قبيل حوادث التفجير التي تبنّتها حماس داخل الخط الأخضر، لم ينفِ اصطباغ طابع الانتفاضة العام بالعصيان المدني والعمل الشعبي من إلقاء الحجارة والزجاجات الحارقة (مولوتوف) وقطع الطرق وإشعال إطارات السيارات، مما زاد من أسهم التضامن الدولي مع الفلسطينيين.
وقد سرّعت أحداث الانتفاضة الأولى من فتح العواصم الأوروبية أبوابها أمام قيادة منظمة التحرير، التي خاضت خلال الثمانينيات جولات من المفاوضات السرية مع الإسرائيليين برعاية أمريكية وأوروبية، قادت في المحصلة إلى إنتاج اتفاقية أوسلو عام 1993.
وإن كانت السلطة الفلسطينية ذاتها، تدين بالفضل للانتفاضة بأن أنشأت للفلسطينيين أول كيان سياسي معترف به في الداخل، وسهّلت لقيادة منظمة التحرير أن تكتب نهاية شتاتها بين العواصم العربية التي تقاذفتها مرة بعد أخرى، فإن عقدين فقط على تشكيل هذه السلطة، أفرزا انعطافة إستراتيجية على أيدلوجيتها، من قيادة سياسية تعتمر بزّة المناضل العسكرية، إلى رئيس أعلن غير مرة أنه "ضد الكفاح المسلح، ولم يحمل بندقية في حياته قط".
مراحل هذا التحول، أفرزت داخل المجتمع الفلسطيني وفي أوساطه السياسية جدلاً عريضاً حول الموقف من المقاومة بشقّيها العسكري والشعبي، بين من يراها وسيلة وحيدة للحل، ومن يجرّمها بوصفها "دماراً على الفلسطينيين"، وبين معسكر ثالث يدعو إلى المزاوجة ما بين العمل السياسي والعسكري، بحيث يكون حراك السياسيين ظهيراً للإنجاز العسكري على الأرض، وراعياً لبذوره إلى أن تنضج ثماراً سياسية لصالح الفلسطينيين.
وفي حين كانت الانتفاضة عنصر لحمة وتوافق داخلي، تقلّص هامش الإجماع السياسي حولها، حتى بات بالكاد يشمل مظاهر "المقاومة السلمية"، والتي انكمش حضورها على الأرض على وقع تصاعد موجات العسكرة والتطرف في المجتمع الإسرائيلي، وسياسة التنسيق الأمني بين السلطة والاحتلال، إلاّ من مظهر هنا أو هناك، على شكل مسيرات ينفذها نشطاء فلسطينيون وأجانب ضد مصادرة الأراضي وتشييد الجدار العازل.
هذا التشظي بالمظلة السياسية للعمل المقاوم، دفع بها إلى زاوية المحاصرة ومحاولات الاستئصال، فبدت تفقد شرعيتها في قاموس السياسية الرسمي الفلسطيني، إلى صالح منح الشرعية للتنسيق الأمني مع الاحتلال، الذي وصفه محمود عباس “بأنه مقدس"، وشدّد من على منبر دول منظمة التعاون الإسلامي على أن "مصلحة الفلسطينيين تكمن بوجود تنسيق أمني مع إسرائيل، يمنع وقوع انتفاضة تدمّرنا كما فعلت الانتفاضة الثانية".
وبدا أن الزخم والأضواء التي صاحبت العمل المقاوم في بدايات الانتفاضتين، بات يُمنح اليوم لرؤية وحيدة أريد لها أن تلخّص الصراع، من أجلها أصبح يُساوَم على حق القصاص من مجرمي الحرب الإسرائيليين، فيغدو مسار شكايتهم لمحكمة الجنايات الدولية، وكامل مسعى الفلسطينيين داخل الأمم المتحدة، أداة توظيف سياسي في سبيل استجداء المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي، الذي بدا زاهداً بمثل هذه الجولات التفاوضية، ما دام الجانب الفلسطيني يعلن بوضوح، أن فشلها لن يجعله يلجأ إلى “العنف”، و”لن يصرفه عن التنسيق الأمني”.
وفيما تقلّص الاهتمام الإسلامي والعربي بالقضية الفلسطينية، التي ما عادت تتصدر أولويات السياسة الخارجية، وتبدّلت مفرداتها من الصراع العربي – الإسرائيلي، إلى الصراع الفلسطيني، فإن هذه الدول وإن لم تدعم يوماً بالعلن موقف المقاومة الفلسطينية وحقها في صدّ العدوان والاحتلال، لكنّها اليوم باتت أكثر من أي وقت مضى، متأهبة للإفصاح لواشنطن، عن استعدادها المضي نحو السلام وتطبيع العلاقات مع إسرائيل، مقابل استئصال المقاومة وإنهائها، حاصرة العمل المقاوم بعنوان حركة “حماس"، في سعي منها لربط المقاومة بمن تراهم "إرهابيين" (الإخوان المسلمون)، وفيما تتقاطر التصريحات من مسؤولين أمريكيين وإسرائيليين عن التحالف العربي - الإسرائيلي الجديد ضد المقاومة خلال العدوان الأخير على غزة وبعده، لا تتحرك أي من هذه العواصم للنفي.
وبعد 27 عاماً على انتفاضة الفلسطينيين الأولى، بدا العمل المقاوم الذي لم تبتلعه بحار التجريم والمحاصرة والاعتقالات، محشوراً في زاوية الحصار، مكبّلاً بأغلال فقدان الشرعية، ومتهماً بجلب الدمار والويلات للشعب الفلسطيني، ليتشارك القدر ذاته مع قطاع غزة الذي يُحاصر من العدو والصديق منذ أعوام، لكن لم تصدق فيه أمنيات رابين قط.