في الفهم لطبيعة الهجمة الشرسة والحرب الشاملة التي تشنها حكومة الاحتلال بكل مستوياتها السياسية والعسكرية والأمنية والقضائية والتشريعية، وأجهزتها من شرطة ومخابرات وجيش وبلدية وداخلية ومؤسسات التامين الوطني وسلطة الإذاعة والبث ومصلحة ودوائر الضريبة على سكان مدينة القدس العرب، وكذلك استهداف المسجد الأقصى بشكل مكثف من خلال الاقتحامات بتنوع وتوزع الأدوار بين الجماعات والمؤسسات والقيادات السياسية والأمنية والدينية التي تقوم بعمليات الاقتحام للأقصى، لا بد من قراءة واقع المجتمع الصهيوني، حيث نشهد الآن إزاحات كبيرة في المجتمع الصهيوني نحو اليمين الديني والقومي والتطرف والعنصرية، ويبلغ الصراع بين أصحاب النظريتين في المؤسسة الحاكمة والمجتمع الإسرائيلي ذروته.
فهناك تيار في الحكومة والمجتمع الإسرائيلي، يرى بأن أمن "إسرائيل" أولاً وأخيراً يجب أن يتقدم على أي هدف آخر، ولكن هناك تيار آخر يبدو أنه اخذ بحسم الأمور والصراع لصالحه، التيار الذي يرى بأن التوسع والاستيطان يجب أن يتقدم على أي هدف آخر، فهو يرى بأن الفرصة والظروف مواتية، لكي تستطيع "إسرائيل" أن تحقق أهدافها في الاحتفاظ بالأمن والسلام والاستيطان، دون أن تكون مضطرة لتقديم أي تنازل للفلسطينيين، يتضمن إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران/1967 وعاصمتها القدس.
وهو يرى بأن الأمن واحد وليس الوحيد في محركات صنع القرار والسياسة الإسرائيلية، ويستند في ذلك إلى أن العرب منشغلين بأمورهم الداخلية وحروبهم وصراعاتهم المذهبية والإثنية والطائفية والجهوية، ولم تعد القضية الفلسطينية أولية عندهم، وبالمقابل الحالة الفلسطينية منقسمة على ذاتها وتعاني من الوهن والضعف وغياب الموقف والقرار والرؤيا والإستراتيجية الموحدة، مع غياب العامل الدولي الضاغط على "إسرائيل" لكي توقف إجراءاتها وممارساتها القمعية بحق الشعب الفلسطيني، أو تلتزم بقرارات وقوانين ومواثيق واتفاقيات القانون الدولي والشرعية الدولية.
اليمين الصهيوني صاحب هذه النظرية، وجد بأن فرصته هذه مواتية للانقضاض على مدينة القدس والأقصى، أثناء شن حربه العدوانية الأخيرة في تموز الماضي على شعبنا ومقاومتنا في قطاع غزة، فهو وجد بان الحرب توفر له ضالته بتحقيق هذا الهدف، بسبب تسليط الضوء والانشغال العالمي والدولي والعربي بالحرب العدوانية على غزة..
وبدأ الاحتلال بشن حرب شاملة على القدس والأقصى، حيث وجدنا أن التحريض ضد العرب المقدسيين كان يجري بشكل منسق ومنظم، ويشارك به قمة الهرم السياسي والأمني والمؤسسات التشريعية والقضائية وغيرها، حيث جرت عمليات تعدي واسعة على خلفية عنصرية ضد المواطنين العرب المقدسيين، وجرت محاولات عدة لاختطاف عدد منهم، ولتبلغ الأمور ذروتها بإقدام شلة من زعران المستوطنين في 3/7/2014 باختطاف الفتى الشهيد محمد أبو خضير، وليتعرض للتعذيب ومن ثم الحرق حياً، ولتكون عملية الاختطاف والقتل العنصرية والكراهية، والتي هي"هولوكست" القرن الواحد عشرين، نقطة تحول على الصعيد المقدسي، فالقدس التي كان يراهن الاحتلال على أنها نتيجة لكل الظروف والعوامل التي ذكرتها ستكون لقمة صائغة يسهل افتراسها، ولكن يبدو بأن العدو لم تأتي حسابات الحقل على البيدر عنده، فقد ثبت بالملموس بأن الحالة المقدسية بكل مكوناتها ومركباتها جماهيرية وشعبية ووطنية ومجتمعية ودينية ومؤسساتية، عصية على الكسر، بل هي قادرة على الصمود والتحدي وتحقيق انتصار، رغم كل أشكال القمع والإجراءات والقوانين والتشريعات القمعية والعنصرية التي مارسها واتخذها الاحتلال بحق المقدسيين، حيث كان تاريخ استشهاد الفتى أبو خضير، بداية مرحلة جديدة تؤسس لحالة جماهيرية مقدسية واثبة وصاعدة، ومرجل يغلي ليطلق شرارات هبات جماهيرية متلاحقة تراكم وتبني المداميك لمرحلة قد تتحول مفاعليها إلى انتفاضة شعبية جماهيرية واسعة.
فصحيح أن الاحتلال أغلق الأقصى أمام المسلمين بشكل كلي في ليلة القدر، وفرض قيود مشددة على دخول المصلين للأقصى في رمضان، بحيث لم يسمح لمن هم دون الخمسين وأحيانا الستين بالصلاة في المسجد الأقصى أيام الجمع، وحوصر الأقصى وجرى اقتحامه بشكل شبه يومي، من قبل الجماعات الاستيطانية الصهيونية المتطرفة، بمشاركة شخصيات دينية وسياسية وحزبية وأعضاء كنيست ووزراء، بغرض فرض التقسيم الزماني وإيجاد فضاء مكاني يهودي في الأقصى، وكذلك ازداد الاستيطان "توحشاً" و"تغولاً"، في كل أحياء القدس وقراها، بحيث أقرت مشاريع وطرحت مناقصات لإقامة ألآلاف الوحدات الاستيطانية في القدس، وشن الاحتلال أوسع عملية تحريض بحق المقدسيين، سواء عبر مقالات صحفية في الصحف الإسرائيلية، يتقدمهم الصحفي اليمني المتطرف "نداف شرغاي" وكذلك "أريه الداد" بالإضافة لكل جوقة اليمن المتطرف المشارك في الحكم ومن مختلف ألوان الطيف الحزبي"نتنياهو، ليبرمان، بيني بينت، أوري اريئيل، موشه فيجلن، ميري رغيف، المتطرف غيلك، يسرائيل كاتس، يتسحاق اهرونوفيتش والقائمة تطول، ورغم كل ذلك كانت إرادة المقدسيين على الصمود والتحدي كبيرة، ولتتسع حالة الغليان الشعبي وتتصاعد، حيث كان استشهاد محمد الأعرج على حاجز قلنديا، ومن ثم قتل الشهيد محمد جعابيص سائق "الباجر" بدم بارد من قبل شرطة الاحتلال ومستوطنيه، وليلتحق به بعد ذلك الشهيد الفتى الشهيد محمد سنقرط، الذي أطلقت عليه رصاصة معدنية قاتلة، ومع ازدياد وتصاعد حدة الهجمة الاحتلالية على القدس والأقصى، كانت القدس تنتفض في ثورة لا تهدأ، والاحتلال حاول بكل الطرق والوسائل والإجراءات والممارسات القمعية والعقابية، أن يخمد هبات المقدسيين المتلاحقة، والتي كانت تأتي في سياق الرد الطبيعي على إجراءاته وممارساته بحقهم، والتي تطالهم في مجمل تفاصيل حياتهم اليومية الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك مست بمعتقداتهم ومقدساتهم وشعائرهم الدينية، من خلال محاولة السيطرة على أقصاهم عبر الاقتحامات المتكررة له من قبل الجمعيات الاستيطانية وزعران المستوطنين، وتدنيسهم للأقصى وأداء طقوس وشعائر تلمودية وتوراتية في ساحاته، والقيام بأعمال فاضحة ومخلة بالأدب والحياء بداخله، ولكي يتصاعد مرجل الهبات الجماهيرية، مع قيام الجماعات الاستيطانية المتطرفة بالاستيلاء على عشرات المنازل المقدسية في وادي حلوة بسلوان، في محاولة جادة لتهويد سلوان، وزرعها بالبؤر الاستيطانية، لكي تكون جسر يربط بين البؤر الاستيطانية في سلوان مع مثيلتها داخل البلدة القديمة، ولكي تصبح الطريق معبدة للسيطرة على الأقصى... وهذا دفع لتصاعد حالة الغليان في الشارع المقدسي، فكانت عملية الشهيد عبد الرحمن الشلودي.....ولتتبعها عملية نوعية أخرى للشهيد معتز حجازي بإطلاق الرصاص على المتطرف الصهيوني عضو اللجنة المركزية لحزب الليكود "يهودا غليك" الذي كان يقود عمليات اقتحام المسجد الأقصى بشكل شبه يومي، وهو من صعد على قبة الصخرة ولوح بالعلم الصهيوني في تحد سافر لكل مشاعر المقدسيين والمصلين.
الاحتلال أدرك بأنه بدأ في فقدان السيطرة على القدس، وبدأت الأصوات تعلو من قبل المجتمع الإسرائيلي ووزير شرطة الاحتلال ووزير الأمن الداخلي ومختلف وزراء وقادة الأحزاب الصهيونية المتطرفة، وكذلك المستوطنين والجمعيات الاستيطانية، من اجل تشديد العقوبات والإجراءات القمعية بحق المقدسيين، وليجري استنفارا شاملا لكل أجهزة دولة الاحتلال من شرطة وجيش ووحدات خاصة ومستعربين ومخابرات وأجهزة بلدية الاحتلال ووزارة الداخلية، لكي تنسق عملها وتشارك في الحرب على المقدسيين، حيث قام وزير الأمن الداخلي الصهيوني بعد إطلاق النار مباشرة على المتطرف "غليك" بإغلاق المسجد الأقصى كلياً أمام المصلين المسلمين، وليعاد فتحه عبر قيود مشددة على دخوله وأداء الشعائر الدينية فيه، مع استمرار عمليات الاقتحام للمتطرفين الصهاينة والقادة الإسرائيليين، وكذلك لكي تتمكن من السيطرة على شبان الانتفاضة وأطفال الحجارة، تقدمت وزير "العدل" الصهيوني "تسفي ليفني" إلى اللجنة الوزارية الخاصة بالتشريعات بمشروع قرار يشدد العقوبات على راشقي الحجارة على المركبات الصهيونية وقواتها وشرطتها، لعقوبة تصل إلى عشرين عاماً، وقد تمت المصادقة على مشروع القرار هذا، ليصار إلى عرضه على الكنيست للمصادقة عليه، وليكشف هذا القرار العنصري "القراقوشي" مدى حالة الرعب والخوف والتخبط وفقدان السيطرة والإفلاس التي تعيشها حكومة الاحتلال من الشبان المقدسيين الذين لا يملكون سوى إرادتهم وقناعاتهم وانتمائهم للقدس وحبهم للأقصى، ودفع الاحتلال بأكثر من (3000) جندي وشرطي من أجل إعادة السيطرة على المدينة، والاحتلال منذ انتفاضة الشهيد الفتى أبو خضير في 3/تموز وحتى اليوم اعتقل أكثر من (1000) مقدسي، صدرت بحق أكثر من (300) منهم أحكام، وكذلك صاعد وضاعف من "توحشه" و"تغوله " الاستيطاني بالإعلان عن مشاريع استيطانية جديدة في القدس المحتلة، وطرح عطاءات ومناقصات لإقامة الآلاف من الوحدات الاستيطانية، وقامت أجهزة البلدية والداخلية المدعمة بالجنود والوحدات الخاصة بحملة هدم لعشرات البيوت المقدسية تحت يافطة وذريعة البناء غير المرخص، وليس هذا فحسب، بل توزعت قوات الاحتلال وأجهزته بمختلف تسمياتها على مداخل ومفارق البلدات المقدسية، وشنت حرباً شعواء على المقدسيين، يرافقها في ذلك طائرات سمتية ومناطيد في أجواء أغلب القرى المقدسية مزودة بكاميرات مراقبة، وعمدت إلى مخالفة مركبات وسيارات المواطنين المقدسيين القانونية وغير القانونية منها، ولم يسلم المارة والمشاة من تلك الإجراءات، وكذلك جرت محاصرة القرى المقدسية، وشنت عملية توزيع أوامر هدم لما يسمى بالبناء غير المرخص، وشنت عمليات بلطجة وتقشيط، لصالح ما يسمى ضريبة "الأرنونا" المسقفات والتأمين الوطني وضريبة الدخل وسلطة البث، وغيرها، وكذلك دوهمت المحلات التجارية، للتأكد من سجلاتها المحاسبية والضرائبية والتراخيص، ولم تسلم تلك المحلات من عمليات التقشيط وفرض الغرامات، وفي إطار تلك الحرب، فرضت مخالفات على السيارات المتوقفة أمام البيوت في أكثر من منطقة (500) شيكل لكل مركبة، وكذلك على سبيل المثال لا الحصر جرى دهم محلات الورود ومصادرة الورد والأزهار في أكثر من محل تحت ذريعة أن مصدرها فلسطيني وليس إسرائيلي، وفي محل تجاري آخر في رأس العامود، طلب من صاحب محل تجاري إزالة صورة شهيد معلقة في محله فرفض، وفرضت عليه غرامة قدرها (500) شيكل، وكان يرفع يافطة عالسكين يا بطيخ، وطلب منه إنزالها فرفض، وفرض عليه غرامة أخرى(500) شيكل، وصاحب بيت فرضت عليه مخالفة لأن الحمام الشمسي غير مركب بطريقة لائقة، وصودرت حاويات القمامة من أكثر من بلدة لأن الشبان يستخدمونها في إعاقة حركة الجيش، والمواطن هاني سرور في جبل المكبر، يملك بيت عظم بالقرب من مستوطنة "هرمون هنتسيف" استخدمه الجيش من أجل مراقبة شبان الحجارة، فقام بوضع حماية عليه لمنعهم من استخدامه، فحضرت البلدية والشرطة وقالت له بأن أمام البيت أتربة وأوساخ عليه أن يزيلها وإلا سيدفع غرامة (4000) شيكل، ولترتفع مع كل تأخير إلى عشرة ألآلاف شيكل، وغيرها عشرات الحوادث المشابهة.
ومع تصاعد عمليات الاقتحام من قبل القيادات الصهيونية والجمعيات الاستيطانية والمستوطنين، كانت عملية الشهيد إبراهيم العكاري، والتي استتبعها الاحتلال بحملة تصعيد ضد المقدسيين، حيث المكعبات الإسمنتية وضعت على مداخل العيساوية والمكبر وغيرها من اجل إغلاقها ومحاصرتها.
الاحتلال فقد صوابه ووصل مرحلة الجنون والإفلاس، وهو لن يتورع عن استخدام كل الوسائل وإجراءات القمع من أجل استعادة السيطرة على الوضع وإخضاع المقدسيين، فهو يعتقد بأن الظرف موات لتنفيذ مخططاته، والقدس يجب أن تتهيأ للسيناريوهات الأسوأ.