لا تكفّ مدينة القدس عن التذكير بخصوصيتها الفريدة، التي عجزت جميع الشعوب والديانات والعقائد والقوى الكونية الجبارة عن تبديلها: أنها صرح مسكون بالتاريخ، لا ينقلب فيه حجر إلا ويجسّد صفحة غابرة تضيء الماضي وتنعكس في الحاضر، لكي تخيّم على المستقبل أيضاً.
إنها البقرة المقدسة لدى القومية الإسرائيلية والقومية الفلسطينية على حدّ سواء، كما عبّر الروائي الإسرائيلي عاموس عيلون؛ متناسياً أنها تصبح أكثر من هذا، بكثير، حين يصطدم تهويدها بعبوة احتجاج ناسفة، من النوع الذي انفجر مراراً في وجدان الفلسطينيين.
وهو انفجار يقترب من صفة البركان حين تُمسخ فلسطين التاريخية إلى محض جغرافيا توراتية، أو حين يصادر الكنيست التواريخ جمعاء فيقرر أنّ القدس عاصمة أبدية موحدة لشعب إسرائيل. وعندما هندس مناحيم بيغين هذا القرار، واستوحاه من «الأبدية» كما ألمح، توجّب أن تجري هندسة لاحقة على سطح التراب كما في قلب السجلّ التاريخي، وتوجّب على باطن الأرض أن يقذف الحمم بين حين وآخر… الحمم التاريخية ذاتها، الأكثر سخونة واشتعالاً.
وذات يوم جاء إلى القدس رجل الأعمال اليهودي الأمريكي إرفنغ موسكوفيتز، الملياردير الذي تتكدّس ملايينه عبر آلات القمار، وكان تقديم «الكفارة التوراتية» إلى المدينة هو هدف زيارته. وفي داخل النفق الحاسموني الشهير، دون سواه، وعلى مرمى حجر من المجارير الهيرودية؛ أعلن موسكوفيتز التبرّع بملايين إضافية لشراء المزيد من الأراضي والبيوت، وقال: «السيطرة اليهودية على أورشليم، على الهيكل والحائط الغربي، أهمّ من السلام. واليهود على مرّ العصور لم يصلّوا من أجل السلام مع العرب، بل من أجل بسط السيطرة اليهودية على أورشليم».
والحال أنّ تسعة أعشار اليهود الذين قصد موسكوفيتز الإشارة إليهم، كانوا يشاطرونه الرأي بصدد العلاقة مع مدينة القدس: الديني المتشدد مع العلماني المعتدل، واليميني المستنير مع اليساري الليبرالي، وعمدة القدس آنذاك (الليكودي الصقري إيهود أولمرت) مع سلفه تيدي كوليك (الليبرالي الحمائمي)، أسوة باللاحق أوري ليوبينسكي (المتطرف الذي دعا إلى هدم المسجد الأقصى!) والحالي نير بركات (الذي اقترح على الفلسطينيين أن تكون رام الله عاصمتهم، ثمّ تكرّم فوافق أن تُسمّى «القدس الشمالية!»).
وفي كلّ حال كانت المؤسسة الصهيونية، قبل زمن طويل سبق إعلان قيام الكيان الإسرائيلي، قد انفردت عن العالم بأسره في تحويل علم الآثار إلى ديانة ودين، وليس مجرّد حفريات في التاريخ الغابر تضيء أو تستكمل حلقات غامضة من السجل الإنساني. وفي كتابه «نبيّ من بين ظهرانينا»، يروي سيرة إيغال يادين بوصفه المحارب وعالم الآثار معاً، يقول نيل سيبرمان إنّ التنقيب عن الآثار اليهودية في أرض فلسطين التاريخية كان بمثابة «ترخيص أركيولوجي للاستيطان الاسرائيلي المعاصر»، بحيث تنقلب الرقيمات والألواح المكتشفة إلى ما يشبه صكوك ملكية للعقارات، مع فارق أنها عقود مقدسة مكتوبة بمداد الآلهة.
ولقد انحصرت مهمة علم الآثار الصهيوني في إثبات هذا الزعم أو ذاك حول تاريخ اليهود في فلسطين التاريخية، وليس في استكشاف المواد الناقصة من تاريخ يحتمل درجة علمية نسبية من الإجماع أو الاختلاف، كما هي الحال عند العثور على أية لُقى آثارية، في أية بقعة على وجه هذه البسيطة. وفي أعقاب نزهة أرييل شارون الشهيرة على أعتاب الحرم الشريف، اندلعت انتفــــــاضة الأقصى، وأعادت التذكير بخصوصية القدس التي لا تزول ولا تحول؛ ولعلّ شرارة مماثلة تهدّد، اليوم، خاصة ضمن السياقات الإقليمية السياسية والدينية المحتقنة، بفتح بوّابات التاريخ على ملفات أكثر حساسية وترميزاً و… لهيباً.
المصدر: القدس العربي