شبكة قدس الإخبارية

غزل اللَّوز

رشا السرميطي
كنت أسير في شوارع أفكاري، أرتدي معطف أسراري الحركيَّة، ألبس نظارتي السَّوداء، التي خبَّأت خلفها مقلتيَّ عن الطَّبيعة، أضع على رأسي قبعة تحليليَّة، ذات مروحة واقعيَّة، مصنوعة من الأرق. تلك طقوس أمارس بها سحر أنثويَّتي، مستذكيَّة على الثَّوان الفاترة، بطباع غير مألوفة، للكثيرات من النِّساء، في جوٍّ قارص يخلو من الأحبَّة. انطلقت عازمةً الثَّبات، وخلعت عنِّي ضعف الوقت، بينما نهشت مخالب الغياب مشاعري، ومزَّقت أنياب النَّوى اشتياقي. وقفت أطبِّب نزف أحلامي، ولأنَّني لم أزل عاشقة للورد، بالرُّغم من مآسي واقعنا، أتممت مشواري الذي لم أحدِّد نهايته. لقد كنت هائمة بين سيَّارات عقلي، بلا رفيق يحاكي تساؤلاتي الجارفة. أتأمَّل جريان الأيام المسرعة بجواري، وأفكِّر في اللَّيالي التي لم تلحق بنهاراتها، حتَّى تأخرَّت فاندثرت، ثمَّ خطَّت على الأوراق بأقلام متكسِّرة، كأنَّها وهم من خيال، ودخان انتفضت آثاره بعد إخماد حرائقه، التي تاوت جثثهم، وأكلت بنيرانها تفاصيل حكايات الهوى على أجساد من لحمٍ ودمٍّ، بنهاية يجهل الورق والقرَّاء حقيقتها، فلا أقلام كتبت عنها، وما بقي منها سوى رائحة الألم المنتشر في داخل صدر رئات الفكر، عند الأوفياء لذكرياتهم فقط. مررتُ على الأرض مخذولة، وهامتي إلى التراب منحنية، أرصد أحدث موديلات التَّنقلات الإنسانيَّة، التِّي اخترعها الهاربون، المتقلِّبون، لنقل بصراحة وجرأة: "المنافقون"، وبلا حرج، لنواجه أنفسنا بما علمنا من الحقائق الرَّماديَّة التي لوَّنت أفعالهم وأقوالهم. فقد أصبح للخائنين كنيات عديدة، استحدثها العصر في هذا الزَّمان. وعلى أرصفة الحنين، كانت ذاتي واقفة بلا شعور، غادرها الجسد واثباً بخطوات خفيفة، كما الغباش، رحلت الصورة عن مقلتي، وبدأت بالتَّماهي، والتَّلاشي، حتَّى صارت لا تُرى بعين القلب. كان الصَّمت يرمقني من أقصى السُّكون، وأجراس الرَّحيل في شباط تقرع هدوء الإنصات على أبواب داخلي. مذهولة روحي، والضَّجيج يتبعني كما الظِّل، يطاردني صوت لا أكاد أسرُّ أصداءه الموحشة عمَّن في القلب. أشعر بالضَّياع، وبنأيٍ لأجزاء النَّفس عن نفسها، وشتات لمكوِّناتها. إنِّي مبعثرة هنا وهناك، وحيدة ولا شيء معي سوى أذنان، سمَّاعتان، تنصت كلاهما لحزني وفرحي المغموسان بنكهة الوجع، أمام بكاء اللَّحظات القائمة، وأثناء السَّير، برفقة ضمير وفيٍّ لمناجاة الفؤاد، ومراجعتي لأوراق خاصَّة جمعت بيننا على ذات سطر في العمر جميلاً، أتراني واقفةٌ أم أمشي! كانت قدماي تجريان، وتسبقان بقيَّة ألمي المدحور في أعلى رأسي، بعثرتُ كلَّ شيء حينها، وقرَّرت أن أتخلَّص من معظم أشيائي، وذكرياتي لم تزل تلحقني، تطارد ذاكرة الوفاء، وتهرب عن مساومة الزَّمان، لم أعزم النِّسيان حينها، لأنَّني ما رغبت بأن أُجترَّ وعجزي آنذاك، ولا أضعف قراراتي في لحظة من التَّعصُّب للحزن. وصلتُ دون انتباه، لحافّة وادٍ مريع، وإذا بعرائس الشَّجر توقفني على مقربة من وعورة خطاي، لولا ظهورها المفاجئ أمامي في الوقت الدَّقيق، لكنتُ خسارة ونسياً منسياً. كان الأفول موعداً يستميل تطلُّعاتي الأمليَّة، وكانت الشَّمس قرصاً ذهبياً، زيَّن السَّماء، يسبح في قوس قزح من المشاعر التِّي لا تدوم، وما بعد الفراق عودة يشتَّدُ فيها اشتياقنا، والغيم كسى السَّماء بعباءة المطر، لكنَّ السُّحب آثرت أن تحبس فضفضاتها، فلم تهطل برداً يخفِّف الاشتعال بجسمي. رأيتُ السَّرو شامخاً على تيجانه الأمل، كان باذخاً بجماله وأناقته، يستعدُّ لزفاف الحبِّ ومواعيد الوفاء إليها، كنَّ والخوخ مجتمعات، وعلى سجاد أخضر، كانت تتمايلن في إغراء، نلن بغوايتهِّن من حزني، وأخذن يدلِّلنني في أحضان الحبِّ، ونسمات تخضَّبت بعبق التُّراب، دُفنت تحت جذورهنَّ مواجعي، كما الحور اكتسين بلؤلؤ الأزهار، واكتحلت النُّوار على شعرهنَّ أغصاناً تحمل في براعمها أكمام الكلام، وما بينها انتشرت أفراد الرَّعيَّة من شقائق النُّعمان، والحنُّون الأصفر والزَّهريّ، وبعض من النَّرجس. إنَّها حديقة لخيالٍ مررتُ به، ومرَّ بي ذاك المشهد إلى دروب الأمل، مستنكراً لحظات البؤس التِّي كنت فيها. قبل أيام قليلة فقط، كانت تلك الأشجار عارية بلا أوراق، جافةٌ أغصانها، من جور الخريف، تعاني فقد اللَّحظات النَّضرة، وقد انقضت الأيام فصولاً، وهي باكية تستجدي ناظراً غيري يتأمَّلها، وكأنَّها كانت تعلم مدى تعلُّقي في الطَّبيعة، وذكائي في استقراء ظواهرها، وقد باحت اليوم لي في صمتها عن سرِّ شموخها وكبرياء انتظارها، آملة بغدٍ أحلى، ظلَّت تحدِّثني عن مواسم الحياة، كلَّما مررتُ عنها، لطالما أودعتها همِّي، وباحت لي بهمومها. أيُّها اللَّوز، يا من أعطيتني أملاً في هذه الحياة، اسمح لي بالمكوث قربك، دعني أعانقك، فأنا لا أستطيع فراقك، إنِّي متعبة والإنتظار يفتك في تحمُّلي، ولن أقوى على الوداع، بعدما تعلَّقنا ببعضنا، وجمعتنا أحاديث الخلود. عدني أمام الشَّجر والبشر، في السَّحر والسَّهر، والقلم شاهد، كما الأوراق شواهد، هات يدك لنتعاهد أمام القرَّاء: بأنَّ ما بيننا سيدوم، ولنتعاضد مهما فعلت بنا المواسم، ونأت بنا عنَّا، أن نبقى كما كنَّا، نحلم في ربيع مشاعرنا، حتماً سوف نلتقي يوماً، وتزهر أقلامنا لوزاً أخضراً. لا شيء يدوم، ولا حال لن يتغيَّر أو يغيِّرنا. هكذا هي الدُّنيا متقلِّبة، أشجار لوز نزرعها، نتعب حتَّى تزهر أوراقها بأقلامنا، ثمَّ تثمر الحكايا، فنأكل طيِّب ثمرها، من نصوص مستطابة لشهيَّتنا، وجوع القرَّاء لبوحٍ فيه تسمو الأرواح، ثمَّ تتساقط الكلمات بعد انتهاء صلاحيَّتها، وتذبل المقالات التي نُسبَّت فيها، لتتعرَّى الأغصان من أبجديَّات المواقف، فينضب الحبر، لبرهة باردة، ويتجمَّد النَّبض في أوردتنا، فلا نكتب شيئاً، لكنَّنا سوف نعود كما كنَّا، عشاقاً للحروف، نرثوا الحنين في البعد لوحدته وتفرُّق شملنا، و نرجو من الوجد سقيا حبر يأمِّلنا، ويزيد من يقين اللِّقاء بينهما، فما بعد كل شتاءٍ وبكاءٍ، هناك ربيع آتٍ، يعيد لنا المجد والعزَّ فيجملِّها، نصوصاً لوزيَّةً، في أعينٍ اشمأزَّت من منظرها، ربما مرَّت عنها قبل زمن، ولم تستنطقها! وما بعد الغياب في موسم الوفاء، هناك لقاء سوف يجمعنا، ولن يفرِّقنا البعد بعدها، إن كنَّا نحبُّ بعضنا، واللَّوز فاكهة اكتست بها أرض أحلامنا الفلسطينيَّة.