شبكة قدس الإخبارية

الطفلة وئام الأسطل ووالدها .. أحياء خرجوا من تحت الأنقاض

أحمد يوسف

خاص شبكة قدس - "يعني بركبولي رجل فيها لحم وعظم؟ وبقدر أمشي وأرجع ع المدرسة؟"، تسأل وئام الأسطل (9 أعوام) والدها محمد (44 عاما)، الراقد إلى جوارها طريح إصابته بعد قرابة الأسبوعين من الفراق والألم.

ارتديت ثياب العزل الطبي ودخلت حجرة علاج الأب وطفلته بقسم الجراحة في مشفى النجاح بنابلس، لأشاهد وئام غافية تحت تأثير المخدر، استعدادًا لعملية ليست الأولى ولن تكون الأخيرة في رحلة علاجية تمتد أشهرًا، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من جسدها بعد إصابته بصاروخ إسرائيلي أواخر رمضان المنصرم.

بين الرعب وما يشبهه

مع بدء استعدادات الاحتلال للعدوان البري على القطاع أواسط تموز الماضي، انقسمت غزة بين الرعب وما يشبهه، كما يقول محمد ياسين الأسطل لـ شبكة قدس، وذلك بعدما صارت مناطقها القريبة من الحدود تحت الصواريخ الساقطة من السماء، وقذائف المدفعية القادمة عن وجه الأرض، ما خلف رعبًا بين الأهالي وتحديدًا الأطفال. ويضيف، "كان الوضع داخل غزة أفضل حالاً وأقل رعبًا، ففي الأيام الأولى لم تكن قد وصلتنا قذائف المدفعية بعد، غير أنا عشنا في مايشبه الرعب، بسبب علمنا بإمكانية استهداف أي منا بصواريخ الطائرات في أي لحظة". في هذه الأثناء، التجأت شقيقة الأسطل وأطفالها من حي القرارة المتاخم للحدود إلى منزل عائلتهن في خانيونس طلبا للأمان، دون أن يعلمن أنهن قد استجرن من الرمضاء بالنار، وفقا للأسطل. لكن حتى تلك اللحظة، كان محمد يلاحق رزقه بشكل اعتيادي كمزارع محررة نتساريم، معتقدًا أن الانتصار في الحرب لا يكون عسكريا أو سياسيًا وحسب، بل بالاستمرار في الحياة والبناء حتى تحت القصف. اشتدت صعوبة الأوضاع مع مرور أيام، وتوغل جيش الاحتلال حتى ثلاث كم وسط إسراف في القتل والتدمير وفقا للأسطل، حتى حتى باتت خانيونس تحت مرمى المدفعية التي كانت بعيدة عنها قبل أيام، لينتقل كثير من الأهالي آنذاك إلى منازل أقارب لهم يقيمون في قلب غزة، فيما التجأ آخرون إلى المدارس، حتى صار الصف الواحد يؤوي خمس عائلات.

صاروخ تحذيري مدمر!

في يوم الإثنين (21-تموز) قرر محمد الاستجابة لنصائح عائلته بتجنب الموت المحقق في مكان عمله والمناطق المحيطة به، فامتنع عن الذهاب لعمله في هذا اليوم وبقي في منزله لمتابعة الأخبار.

عند الثانية والنصف ظهرًا، توقفت جهاز التلفاز عن التقاط الفضائيات الإخبارية، فتوجه لسطح منزل عائلته البعيد 30 مترًا عن منزله، وذلك لإصلاح "الستلايت" الموصول مباشرة مع تلفاز منزله، ويقول، "شاهدت طائرات الاحتلال تحوم في السماء لكني لم أكترث، كان واضحًا أني أحمل التلفاز وأصلح التسلايت، كما أن أحد أطفالي كان يلعب إلى جواري، فاعتبرت أن ليس في الأمر مايثير الشك أو القلق".

أصلح محمد التلفاز وتوجه لمنزله حيث أطفاله وأطفال شقيقاته يلعبون على بعد أمتار قليلة منه، تبرعت وئام بمساعدته فحملت عنه "الريسيفر"، وقبل دخوله المنزل أطلقت طائرة إسرائيلية صاروخًا إرشاديًا، محولاً الأسطل من مشاهد للأخبار إلى خبر عاجل فيها.

أصيب الأسطل وابنته وئام وبنات شقيقته الثلاث بجروح متفاوتة في أطرافهم، بفعل ما يسميه الاحتلال صاروخًا تحذيريًا من صواريخ أثقل، ويؤكد الأسطل أن هذا الصاروخ لم يتبعه أي صاروخ آخر، ما يعني أن الطيار اكتفى بتأثير تحذيره المدمر.

ويتبسم محمد متحدثًا عن مزاعم الاحتلال باستهدافه المناطق السكنية لاستخدامها في إطلاق الصواريخ، ويتساءل عن نوع الصاروخ الذي أطلقه بإصلاح "الستلايت"، وسبب تجنب قصفه حتى لحظة وصوله للساحة التي يلعب فيها أطفال عائلته، ويضيف، "الهدف إلغاء وجودنا عن آخرنا مش نزع السلاح، إذا كنا مسلحين وهيك عملوا فينا؟ كيف لو نزعوا سلاحنا؟ حينها على العالم أن يقرأ الفاتحة على غزة". المعاناة لم تبدأ بعد!

أصيب محمد بتهتك في قدمه اليمنى، أما وئام فأصيبت بكسر في رجلها اليسرى أدى فيما بعد لبتر 30 سم منها، كما أصيبت بكسر آخر في قدمها اليمنى، ومزقت شظية بطة قدمها مسببة بقطع شريانها والتهابات تلزمها بإجراء عملية تنظيف في كل يومين.

يوضح محمد، "بنات أختي والدهن طبيب، كان قد غادر المشفى للحصول على راحة لساعات، لكنه أبلغ بعد وقت قصير بإصابة طفلاته الثلاثة فعاد لعلاجهن"، ويضيف، "الحمدلله حمد الشاكرين".

نُقلت وئام إلى المشفى الأوروبي في غزة لصعوبة حالتها، فيما بقي والدها لتلقي العلاج في مشفى ناصر، بعد خمسة أيام علمت وئام ببتر قدمها، فبكت سائلة الأطباء عن إمكانية زراعة قدم فيها عظم ولحم، لإعانتها على العودة لدراستها، بعدما ختمت عامها الدراسي المنصرم في المركز الأول.

في يوم الإثنين (4-آب) أبلغ محمد بنقله وطفلته للعلاج في الضفة، فتنفس الصعداء لإمكانية التقائه بطفلته من جديد بعد فراق قارب الأسبوعين، غير أنه تلقى صدمة جديدة عند حاجز إيريز، لدى علمه بنقله إلى مشفى سان جورج في القدس، بينما نقلت وئام إلى مشفى النجاح.

استغرقت رحلة محمد عبر سيارات الإسعاف حتى القدس لأربع ساعات، فيما احتاجات وئام ست ساعات لبلوغ نابلس، كما لم يشفع إصدار تصريح رسمي ووضوح الإصابة للأب وابنته، فخضعا لتفتيش دقيق وأخذ عينات قبل السماح لهما بالمرور.

بعرف إنكم بتكذبو علي

بقي التواصل بين محمد ووئام عبر الهاتف لأربعة أيام أخرى، لم تتوقف خلالها الطفلة عن طلب نقلها إليه لإحساسها وأمها بالوحدة، فيما كرر الأب طلب نقله لابنته، حتى جاءت الموافقة بعد تأكد إمكانية علاجه في مشفى النجاح، ليلتقي بها يوم الجمعة (8-آب).

"كنت واعد وئام إني آجي عندها بس بدون تحديد الموعد، شريت لها لعبة ملونة ودخلت غرفتها محمولا على السرير، لكني لم ألمس منها أي ردة فعل، كنت متمني أشوفها بتضحك، لكن مابعرف ليش ما استوعبت هالشي باليوم الأول، يمكن كانت تحت تأثير المخدر".

بدأت وئام في اليوم التالي بتقبل حقيقة أن والدها يرقد لجوارها من جديد، صار صوت صراخها أعلى كأنها أخذت تستقوي بوجوده، كما يقول محمد.

أوقفنا عن الحديث صوت وئام وقد استفاقت من نومها، "يما إيدي بتوجع"، سألتها أمها، "أي إيد؟"، فأجابت: "هاي" ولم تشر لأي منهما، ثم عادت للنوم. قال محمد، إن وئام تعلم حقيقة إصابتها بشكل جيد، "عندما أبلغتها بأن الطبيب طمأنني بأن وضعها يتحسن كذبت كل ما قلته".

قالت وئام، "أنا سمعت الدكتور بيحكي عن قص عظم وإزالته، وعن صعوبة وضع الكاحل، أنا بعرف إنكم بتكذبو علي وإنه وضعي صعب"، ويضيف محمد الذي يؤكد أنه لم يتوقع قدرتها على فهم كل ذلك أنه حاول تهدأتها بأنه هو مصاب مثله فأجابت، "إنت كبير بتقدر تتحمل الوجع بس أنا لا".

ولا تتوقف وئام عن تذكر لحظة القصف وإصابتها فور استيقاظها بعد كل عملية أو فترة تخدير، كما تعترض على كل صوت مرتفع مثل إغلاق سلة النفايات أو وضع كأس ماء على الطاولة، يوضح محمد، "لما كانت في المشفى الأوروبي كان في طفل جاي يزورها ومعه بالون، انفجر البالون فارتعبت وئام وفكرت فيه قصف، من وقتها بترفض تشوف بلالين".

ستحتاج وئام ثلاثة أسابيع أخرى على الأقل لإنهاء المرحلة الأولى من علاجها، لكنها ستحتاج لثلاثة أشهر أخرى لتستطيع تركيب طرف صناعي للذي تم بتره.

أما الأب فيخشى مفارقة ابنته من جديد بعد انتهاء فترة علاجه، بينما ينفطر قلبه على أطفاله الأربعة الآخرين الباقين في غزة، مع احتمالية تجدد العدوان مرة أخرى، وبينهم طفله الرضيع المولود قبل العدوان بأقل من شهر فقط.