اختارت كل من صحيفتي "يديعوت أحرونوت" و"هآرتس"، التعليق اليوم الخميس، على ظاهرة قيام المئات من جنود الاحتلال بتصوير أنفسهم (ما يسمى بظاهرة "سيلفي")، أو تصوير رفاقهم وهم يحملون لافتات تعلن تأييدهم للجندي الإسرائيلي دافيد آدموف، الذي ضبطته كاميرا فلسطيني في الخليل وهو يسيء التعامل مع شابين فلسطينيين، قبل أن تستفزه الكاميرا فيهدد حاملها بإطلاق النار عليه إذا لم يتوقف.
ورغم أن جيش الاحتلال الإسرائيلي أعلن على لسان المتحدث باسمه أن الجندي المذكور لديه سجل من الاعتداءات على اسرائيليين أيضاً، اذ قُدّم للمحاكمة العسكرية، وحُكم عليه بالسجن، بعدما اعتدى جسدياً على قائده المباشر ولكمه في وجهه، غير أن مئات الجنود في جيش الاحتلال أغرقوا شبكات التواصل الاجتماعي بصورهم وهم يحملون لافتات مؤيدة للجندي المذكور.
وقالت "هآرتس"، إن الأمر لم يقف عند ما سمّاه محللها العسكري، عاموس هرئيل بالـ"تمرد ديجيتالي"، بل تخطى ذلك عندما حازت صفحة خاصة نُشرت على "فيسبوك"، تأييداً للجندي المذكور، على أكثر من 60 ألف لايك خلال يومين.
كما انضم وزير الاقتصاد المتطرف، زعيم حزب "البيت اليهودي"، نفتالي بينيت، إلى "المتضامنين" مع الجندي المذكور، الذي لم يعاقب أصلاً على تهديد فلسطيني بالقتل، وإنما قدم لمحاكمة عسكرية لاعتدائه على قائده العسكري المباشر. وكتب بينيت على صفحته الرسمية على "فيسبوك": "لقد تصرف الجندي بشكل صحيح، ولو لم يكن هناك من يصور لما وقع الحادث أساساً. من المهم أن يعرف كل مقاتل أن عليه أن يواصل الدفاع عنا وعن نفسه؛ وأن يعرف بأننا نقف خلفه".
وعلق هرئيل على ذك بقوله إن "العاصفة التي أثارها الموضوع على صفحات الانترنت تكشف عن أسلوب ونمط نشاط الجيش الإسرائيلي في الأراضي المحتلة في عصر الشبكات الاجتماعية: انتقال من وضع لم توثق به حالات لا يستهان بها من المواجهات بين جنود الجيش والفلسطينيين، إلى وضع تحظى به هذه الاحتكاكات بالتوثيق والنشر، من جهة أولى. واستغلال الجنود (الذين لم يكونوا في السابق جزءاً من النقاش السياسي) الشبكات الاجتماعية للتعبير عن آرائهم بفظاظة وإعلان تأييدهم للجندي الذي تورط في الحادثة، من جهة ثانية".
ويضيف هرئيل أن المجمع الاستيطاني اليهودي في الخليل بات أكثر منطقة تخضع للتصوير والتوثيق، بفضل توزيع منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلي "بتسيلم"، كاميرات وآلات تصوير على السكان الفلسطينيين، لتوثيق اعتداءات المستوطنين والجنود، وتبعتها بعد ذلك منظمات حقوقية أخرى كثيرة.
ويشير الكاتب الى أنه "على الرغم من أن الجيش الإسرائيلي يبذل جهداً خاصاً في شرح حساسية الأمر للجنود، الذين يرسلون للخدمة في الخليل، غير أن هؤلاء يقعون في كل مرة في تلك المصائد الإعلامية". ويقرّ بأن العاصفة ثارت بعد تقرير إعلامي غير دقيق، وغير صحيح، أوحى للمشاهد الإسرائيلي، بأن الجندي قدم للمحاكمة العسكرية، وعُزل من منصبه بسبب حادثة تهديد الفلسطيني الذي يحمل الكاميرا، بإطلاق النار عليه. وأضاف أن المتحدث باسم جيش الاحتلال أوضح لاحقاً أن محاكمة الجندي كانت أصلاً لسبب آخر، وأن حبسه كان بفعل اعتدائه على قائده المابشر؛ كلّ هذه التوضيحات لم تضع حداً لما وصفه بأنه احتجاج الجنود الذي بدأوا بنشر صورهم (بعد إخفاء وجوههم) وهم يحملون لافتات التأييد للجندي المعتدي.
ويقول هرئيل إن "هذه الحوادث (من الاحتكاك والمواجهات مع الفلسطينيين) ليست نادرة، وقد يكون الجندي شعر بأن حياته مهددة بالفعل، لكن ما أحرج الجيش الإسرائيلي بالأساس هو لغة الجندي الفظة وتهديداته التي رصدتها الكاميرا ووثقتها، وحقيقة التغطية الإعلامية الواسعة للواقعة"، على حدّ تعبيره.
الأمر الآخر المقلق، بحسب هرئيل، هو عدم وجود أي حاجز، في العصر الراهن، يحول بين الجندي وبين التعبير عن آرائه، والأهم من ذلك أن ما حدث في هذا الملف يعكس عملياً، صيرورات أكثر عمقاً تتمثل في انتظام الجنود على الانترنت والتمرد "ديجتالياً" على الجيش وضدّ سياسته. كما أنها تعكس أيضاً عدم موافقة الجنود الميدانيين على سياسة "ضبط النفس"، التي تفرضها القيادة العسكرية في التعامل مع السكان الفلسطينيين، خصوصاً أن الجنود يكثرون من التذمر من أن الجيش وقيادته العسكرية لا تساندهم عند تورطهم في مواجهات من هذا النوع. والأهم من ذلك كله، بحسب هرئيل، أن كثيرين منهم يملكون مهارات عالية تمكّنهم من إخفاء هويتهم، وبالتالي ضمان عدم وصول سلطات الجيش إليهم لمحاسبتهم على تصريحاتهم الخارجة عن سياسة الجيش.
ويخلص هرئيل إلى القول إن "هذه عملياً ساحة جديدة يخوض الجيش غمارها، ويخطو خطواته الأولى فيها، فيما يبدو أن الجنود قد سبقوه بعدة خطوات".
في المقابل، يعتبر المراسل العسكري لصحيفة "يديعوت أحرونوت"، يوسي يهوشواع، أن الجندي دافيد أدمنوف "تحول بدون أن يخطط لذلك، وبدون اختيار قادته العسكريين له، ليصبح رمزاً لجيل كامل من مقاتلي الجيش الذين يصرخون بأنهم يخدمون في ظروف غير محتملة، وبالتالي رفعوا على شبكات التواصل الاجتماعي أكبر صرخة احتجاجية عرفها الجيش".
ويلاحظ أن كلاً من هرئيل ويهوشواع يستخدمون دلالات لفظية تنم بشكل مبطن عن تفهم "لحالة جنود الاحتلال"، وأوضاعهم وصدق احتجاجهم، بدلاً من الإشارة بوضوح إلى أن الهدف الحقيقي من وراء هذا الـ"تمرد ديجتالي"، كما يسميه يهوشواع هو الآخر، هو الضغط على جيش الاحتلال للتساهل بدرجة أكبر مع الجنود الذين تضبطهم كاميرات الفلسطينيين، وهم ينتهكون حقوق الإنسان ويعتدون على الفلسطينيين ويسيئون معاملتهم، عند الحواجز وفي كل مكان في الضفة الغربية.
ولعل أكثر ما يؤكد ذلك هو تركيز كلا المحللين على "احتجاج" الجنود، وليس على اعتدائهم على الفلسطينيين، ومحاولة تبرير اعتداءاتهم بترداد عبارت الخدمة العسكرية في ظروف غير محتملة.
وفي هذا السياق لا يخفي يهوشواع تعاطفه الضمني مع الجنود عندما يكتب أن: "كل الجنود الذين يخدمون في الخليل يعرفون أن هذا الخط هو أكثر خط خدمة يخضع للتصوير والتوثيق، وأن الجنود يدركون أن أحداً لا يسمع بهم ولا يهتم بضائقتهم سوى منظمة فلسطينية هنا وأخرى هناك توثق سلوكهم بعد استفزازهم".
ويرى يهوشواع أن "هذا التمرّد سيدخِل الجندي المعتدي إلى التاريخ العسكري، كأول حالة ينضم فيها ويتضامن جنود من وحدات قتالية متنافسة للتضامن مع زميلهم، وليس هذا فقط، بل إلى التعبير عن عدم خوفهم من قادتهم العسكريين المباشرين أن يكشفوا هويتهم، وهم يختارون طواعة الميديا الجديدة وليس التقليدية والمؤسساتية للتعبير عن احتجاجهم".
ويخلص إلى القول إن هذا التمرد فاجأ الجيش، الذي لم يكن جاهزاً لاندلاع هذه الاحتجاجات، ولم يقم بإدارة القضية بشكل لائق؛ فالجندي المقصود لم يسجن ولم يعزل من منصبه بسبب الحادثة الموثقة بالصوت والصورة، وإنما تورط في وقت سابق في شجار عنيف وضرب أحد قادته المباشرين، وحُكم عليه بالسجن العسكري لمدة عشرين يوماً.. قبل أن يشهر سلاحه بوجه الفلسطينيين، غير أن التقارير التي تناقلتها الشبكات الاجتماعية هي التي أشعلت الحريق، وعندما حاول الجيش التدخل كان الوقت قد فات.
المصدر: العربي الجديد.