شبكة قدس الإخبارية

"الموجة الثالثة" التي كبرت بأفلامها

أحمد البيقاوي
في عام 1973، حاول أستاذ التاريخ الأمريكي رون جونس الإجابة على أسئلة طلبته في فصل “العالم المعاصر” في مدرسة كابرلي الثانوية في كاليفورنيا حول مدى تبعية الألمان لقائدهم هتلر، وسكوتهم عن الإبادة الجماعية بأسلوب إجابة غير تقليدي، فقرر القيام بتجربة أسماها فيما بعد “الموجة الثالثة” كناية على القوة التي لا يقف أحد أمامها. تتلخص التجربة بالسيطرة التدريجية على الطلبة والتحكم بتصرفاتهم، وفرض الطاعة عليهم، من خلال تأويل حركات التبعية للقائد على أنها أسلوب مريح للنقاش في الفصل حتى يعتادوها، ثم إغراقهم بالرموز التي سرعان ما تعلقوا بها، وإشباعهم بالشعارات، وتعزيز انتمائهم لجماعة الموجة الثالثة وأعضائها، وإجبار من فيها على الالتزام بكل قواعدها، والتي صارت بالنسبة لهم أكثر من مجرد جماعة، حيث تحولت لمجتمع، كان ذلك واضحاً في القصة الحقيقية والأفلام التي وثقتها.   [caption id="attachment_39293" align="alignright" width="240"]بوستر الفيلم الأمريكي “The Wave” بوستر الفيلم الأمريكي “The Wave”[/caption] استمرت هذه التجربة لستة أيام، وقام المخرج الأمريكي اليكساندر جراسشوف في عام 1981 بإخراج فيلم تلفزيوني “The Wave” يوثق تفاصيل أيامها بناء على قصة قصيرة كتبها صاحب التجربة نفسه، بداية من السؤال الذي لم يستطع إجابته، ودفعه للتفكير خارج الصندوق والقيام بالتجربة، حتى خروجها عن سيطرته، وصولاً إلى قرار إنهائها، يتخلل كل ذلك توصيف دقيق لكل عضو من خلال الحوارات التي جرت مع زملائه أو مع القائد، ثم أحاديث الأهالي مع أبنائهم وتحذيرهم من الانضمام والانصياع وطاعة القائد “الأستاذ”. ردد أعضاء الموجة الذين كانوا يتزايدون يوما بعد يوم شعار الجماعة “القوة من خلال الطاعة، القوة من خلال الجماعة، القوة من خلال الفعل”. بعد سبعة عشر عام من فيلم جراسشوف، وتحديداً في عام 2008، التقط القصة المخرج الألماني دينس جانسل، وقام باستغلال تقنيات التصوير الحديثة، وتطور تكنولوجيا الاخراج والمونتاج ليقدم لنا القصة من جديد في فيلم الموجة “The Wave” بأسلوب معاصر، جانسل أضاف لمسات وتفاصيل قليلة دون خدش القصة الحقيقية للموجة الثالثة التي أخذها هو أيضاً عن قصة الأستاذ رون جونس والتزم بمتنها، عارضاً لنا الشخصيات كما كانت تماماً في القصة الحقيقية. انتشرت القصة من جديد، وكثرت النقاشات حولها، لتطل علينا الشخصيات الحقيقية في فيلم وثائقي “Lesson Plan” في عام 2011، وتحدثنا عن سلبيات التجربة وعن الأثر السلبي الذي تركته في كل من شارك فيها، وتقدم لنا نصائح التمييز بين الخير والشر، هذا غير المقالات والكتب والمسرحية التي تناولت تفاصيل القصة. [caption id="attachment_39294" align="alignleft" width="185"]بوستر الفيلم الألماني “Die Welle” بوستر الفيلم الألماني “Die Welle”[/caption] يصل المشاهد خلال مشاهدة الافلام ضرورة التفكير والتأنّي قبل الانضمام للجماعات وفي تنفيذ الأوامر وضرورة التمييز بين الخير والشر، ولكن تتسلل الكثير من الأفكار إلى ذهنه في نفس الوقت، ابتداء من تغليب دور الفرد على الجماعة، وإبراز تفكير وعقل الفرد خارج الموجة، وضرب الأيدولوجيات بمجملها، وتنفير الناس من العمل المنظم بسبب التصرفات الفردية الشاذة، وصولاً إلى خطاب العقّال في الفيلم من الأم والأب والحبيبة من خلال تغليب الجانب السلبي للعمل الجماعي في حواراتهم. لقد حلّت جماعة الموجة مشكلة التمييز للأمريكي الأسود في القصة الحقيقية والتي جُسدت في الفيلم الأمريكي، وللألماني التركي في الفيلم الألماني، وصارت سنداً للشخصية الضعيفة التي اعتادت على الضرب والإهانة، وأوجدت المعنى للشخصية العدمية، وخلقت سبباً إضافياً لفريق المدرسة للفوز، وأسباباً أكثر لأعضائها لتعزيز الانتماء إلى فريق المدرسة، وحسّنت المستوى الأكاديمي، ليتم الإعلان عن حل الموجة في نهاية القصة والفيلمين بكل سلاسة بخطاب قائد يتقمص أسلوب هتلر في الفيلم الألماني أو قائد في الفيلم الأمريكي يلقي كلماته وصور هتلر في خلفيته!. الأستاذ جونس الذي فقد السيطرة على أعضاء الموجة الثالثة بعد انتشار الفكرة وازدياد اعداد المنتمين والموالين لها، لم يحاول تعديل المسار الذي خدشه بعض الأعمال الفردية، والتي كان سبب أغلبها الاستعلاء على الآخرين، ولم يحاول أيضاً استيعاب الأعداد الكبيرة التي التفت حوله، لا لشخصه ولا لموجته، بل لحاجتها لجماعة تنطوي تحتها، تحميها وتحتمي بها، ولفقدانها للرموز والمعنى، لم يجرب استغلال هيبته التي فرضها والولاء الذي اكتسبه ليملئ الفراغ الذي سببّه ضعف تنظيره وقيادته، ولا حتى تمرير أفكار تُجنب الموجة الانحراف أكثر، بل قرر الاستسلام والخضوع والتنازل وهدم كل ما بناه، وترك كل تلك الأعداد التي عَوّلت عليه خلف ظهره. قد يقول قائل، أن هذه التجربة كانت مجرد درس مدرسي وهذا صحيح، ولكنه صحيح في يومها الأول فقط، فالتجربة في يومها الثاني بدأت بمفاجئة الأستاذ، حيث كانت الاستجابة لها والالتفاف حولها فوق توقعاته حتى تغيّر هو في داخله وفي ظاهره من أستاذ مدرسي إلى قائد حقيقي، يقود جماعة في المدرسة والنادي والشارع لا تجربة مدرسية، الأمر الذي سبّبَ له التخبط والضعف الذي كان يُخفيه خلف ثقته الظاهرة في اتخاذ القرار وفي شخصيته. لم تنتشر قصة تجربة الموجة الثالثة ولم توثق في ثلاثة أفلام مبنية على ذات القصة الحقيقة لندرتها، فهذا النمط من القصص نجده بكثرة في كتب التنمية البشرية، ولا أن الأستاذ جونس قد خرج عن النمط التقليدي في التدريس، وقرر خوض تجربة إبداعية مع الطلبة، فأمثاله كثر، بل لأان القصة بدأت بسؤال عن الإبادة والمستبد والدكتاتورية، وانتهت بنقاشه قبل تحولها من مجرد تجربة إلى عمل حقيقي، وتناولت قضية الحريات الفردية والتعدي عليها. هذه القصة اعتبرها الأستاذ جونس “مجرد نموذج لكثير من الجماعات المتطرفة المنتشرة حول العالم” وخصّ في ذكر الشرق الأوسط، هذا كله بالتزامن مع الموضة المنتشرة حالياً في ضرب فكرة الجماعات والأحزاب على حساب تعزيز الفردانية، مستندين على نماذج فاشلة أو متطرفة حول العالم يختارونها بعناية لطعن فكرة الجماعات. الفيلم الأمريكي الأول هو فيلم تلفزيوني مصنف من ضمن الأفلام العائلية، وهو يخاطب العائلة الأمريكية ليحذرها وينصحها من خطر دخول أبنائها في الجماعات أو الانخراط فيها، ولا بد لنا من الإشارة في السياق الأمريكي إلى حكاية الرئيس كلينتون التي قززونا بها عندما وجد كتب القانون في حاوية الزبالة، وثابر في القراءة والدراسة حتى صار رئيساً ليثبتوا لنا أن بإمكاننا وحدنا تحدي هذا العالم أجمع وكل أنطمته والنجاح رغما عنه!، وهو ما قامت به تلك الصبية التي رفضت منذ البداية الانخراط بالموجة وقامت بتحديها وساهمت بإسقاطها ، أما الفيلم الألماني فيكفي الألمان ذكر هتلر والإبادة لوضع القصة في السياق الذي يبذلون فيه الجهد الكبير لتبييض صورتهم، والاعتذار عن الابادة الجماعية والمحرقة، والتحذير من نشوء جماعات تظهر من وقت لآخر لتعيد “أمجادهم” في ما مضى. [caption id="attachment_39295" align="alignleft" width="300"]images التراس أهلاوي: “القصاص أو الفوضى”[/caption] قصة وأفكار الموجة وأفلامها ليست سوى نموذجاً للسينما الهادفة المليئة بالأيدولوجيا، والتي تُمرر إلينا الكثير من الأفكار من خلال مشاهدها بأسلوب جذاب بعيد عن ذاك الأسلوب الفج المعتاد، فقد تُمرِر جملة أو حوار قصير أو صورة أو مجرد اغنية في فيلم لتعزز في ذهن المشاهد أهداف وأفكار الفيلم كاملة، نجد هذا واضحاً في الأفلام الجديدة التي تعالج قضية المحرقة اليوم مثلاً، بالرغم من كل السنين التي مرّت عليها بأسلوب وحوارات وتقنيات جذابة تجبرك على التعاطف مع ضحاياها بعيداً كل البعد عن ذاك الفيلم، الذي يدخل معك في طوشة محاولاً التحكم بعقلك وعواطفك رغماً عنك لتقرر بكل بساطة ترييح راسك وإغلاق التلفاز أو الانسحاب من صالة السينما، فالأفلام الحديثة صارت تتجنب ازعاج المشاهد بفرض الأفكار عليه، ولغت كل فرص انسحابه من الفيلم قبل تمرير أفكارها كاملة، والتي تُختار وتُصاغ وتُقدم لنا بعناية.