شبكة قدس الإخبارية

"عمال إسرائيل" وحواجز الذل والموت!

أحمد البيقاوي

بعد منتصف الليل وقبل الفجر بكثير، تدق أجراس منبهات المئات بل الآلاف من شبابنا وشاباتنا وآبائنا وأمهاتنا معلنةً بدء رحلة الذل والشقاء اليومية، رحلة الانتظار على الحواجز للدخول إلى الأراضي المحتلة، مستغلّين تصاريح العمل القليلة والمحدودة التي يصدرها الاحتلال لهم، للحصول على قوت يومهم.

 “شو بدي أسوي، مش لاقي شغل هون يِلمني ويطعمي ولادي” كانت هذه كلمات “أبو خالد” الخمسيني، وهو في طريقه إلى حاجز الطيبة في طولكرم، بعد أن أخبرني بألمٍ وحسرة بقليل من التفاصيل حول شقاء انتظار المرور داخل مسارب الحاجز، والتي كانت سبب وفاة صديقه “أبو محمد” قبل أكثر من شهر مختنقاً نتيجة التدافع داخلها، خلّف صديقه وراءه زوجة وسبعة أطفال أكبرهم في السابعة عشر من العمر.

 بالرغم من قسوة الأيام على “أبو محمد”، إلا أنه لم يحظَ بوفاة شبه طبيعية نتيجة توقف نبض قلبه المريض، وهو مسترخياً في سريره، بعد نهاية يوم من أيامه الشاقة التي قضاها في السفر والتدافع والانتظار والعمل، بل كُتب عليه الموت في أقسى لحظات رحلته اليومية، مختنقاً بسبب زحام الانتظار!.

شاركنا حديثنا سعيدٌ، وهو شاب في العشرينات من عمره، يحاول يومياً الذهاب لذات الحاجز مبكراً لتجنب الزحام، لكنه يفشل كثيراً في استباقها، يقول: “أحياناً بمر بربع ساعة، بس غالباً بساعة وأكثر”، يعتمد ذلك على مزاج موظفي الشركة الإسرائيلية الخاصة التي تدير الحاجز، والتي تُعطله كثيراً بسبب أو من دونه، ويتعمد موظفوها التكاسل في عملهم، والتململ في إجراءات التفتيش، واحتجازهم لساعات. “الموظفين اللي على الحاجز بتسلّوا فينا كل صبح، وبكملها المعلّم علينا بس نوصل الورشة”، فصاحب العمل لا يتفهم تأخره قليل الحدوث عن العمل، بل يستغلها فرصة لتوبيخه أكثر، مهدداً إياه بالفصل كالعادة، دون حتى سماع أيّ أسباب أو مبررات.

 محافظ طولكرم اللواء عبد الله كميل زار الحاجز واستمع إلى حكايات قاصديه، وأكد في أكثر من تصريح إلى الوكالات الإخبارية والإعلامية، أنّ العمال يتعرضون إلى ذل يومي مقصود هناك، وأنّ “هذا ما يتطلب منا العمل على حل هذه المشكلة على الصعيد الداخلي، أو من خلال حوار مع الإسرائيليين بهدف الخروج باتفاق يصون للعامل كرامته، وان يعبر الى عمله دون معيقات او مشاكل”، على حد قوله.

 حسب “أبو خالد”: “فش إشي تغير، ولا في إشي حيتغير”!، فحتى الآن، وبعد شهر من زيارة المحافظ التي جاءت بعد عشرة أيام من موت صديقه، لم يرى أيّ تغيّر أو تقدم قد يقلل من فرص اختناقه خلال التدافع، أو تكسير عظامه إن وقع تحت أرجل زملائه، ولم يلحظ أيّ تحسن في معاملتهم هناك!.

 Mo3anatMa3barTaybah_10-11_009حاجز الطيبة ليس للعمال فقط، بل هو حاجز رئيسي من حواجز الضفة الغربية، يقصده كلّ من أراد الوصول إلى الأراضي المحتلة عام 1948 من شمال الضفة الغربية، ولا أحد يُعفى من مشقة هؤلاء العمال مهما اختلف سبب مروره، فلكل من يقصده نصيب من التوبيخ والإذلال والإهانة، ولقد سبق لأمهات الأسرى -على سبيل المثال- أن أهينوا شرّ إهانة في الانتظار والتفتيش، ولكن التركيز الإعلامي دائماً يأتي على العمال وقصصهم كون عدد المارين منهم يومياً يتجاوز العشرة آلاف بكثير.

 الشاب سعيد “مش فارقة معه”، بالنسبة له “أموت طخ أو دعس أو خنق ولا أحتاج حدا ولا أمد إيدي للناس”، فحاجة العمل تجبره على السكوت وقبول الواقع دون التفكير في ما قد يحث صدفة، لكن “أبو خالد” صار يقبّل أبناءه قبل مغادرة المنزل كل ليلة من بعد وفاة صديقه، مودعاً إيّاهم “الله يعلم إذا برجع ولا لا”، وختم حديثنا عن العمل وشقائه وأولاده قائلاً: “العمر غالي يا عمي بس أولادي أغلى”.

 لم أكتب ما كتبت إلّا لشعور بالعجز تملّكني وأنا استمع لقصص “أبو خالد” وسعيد، حتى عجز لساني عن الرد عليهم، والتفاعل مع قصصهم إلا بتكرار” بعين الله” و”الله يعطيكم الصحة” و”الله يعطيكم العافية”، فلست بالمكان الذي قد يخدمهم ويغير من حالهم بشيء، ولا أملك الشجاعة على نصحهم بالبحث عن عمل في الضفة الغربية في ذات الوقت الذي نعاني فيه من قلة الفرص، ولا أستطيع الكذب عليهم وتخديرهم بتصريحات ووعود المسؤولين، فقد اكتشفوا زيفها وصاروا على يقين بأنه “فش إشي تغير، ولا في إشي حيتغير”!، لكنّي حاولت هنا إعلاء صوتهم الذي لا يصلنا إلّا بزيارة مسؤول تُسلط عليه الأضواء، أو مع صوت إنذار سيارة إسعاف تنقل شاباً إصابته ليست بأقلّ من الخطيرة، أو مع صراخ “وحدوووووووووووووه” في جنازة أحد العمال الذي مات خنقاً أو دعساً، أو قهراً بالأغلب!

*الصورة أعلاه: من حاجز قلنديا، تصوير: ميخال بتائيل.