خلال وجودي في مركز خدمات الجمهور في بلدية طولكرم لتعبئة بطاقة الدفع المسبق الخاصة بالكهرباء، حضر رجل لتعبئة بطاقته، أعطى موظف المركز البطاقة وانتظر، فحص الموظف ملفه فوجد ديناً متراكماً عليه لفواتير المياه، فأخبره الموظف بأنّ عليه دفع شيئاً من دينه حتى يُسمح له بشحن بطاقة الكهرباء، امتعض الرجل وأخبره أنْ لا قدرة لديه لدفع أيّ شيء، فرد عليه الموظف أنّ التعليمات لديه بأن لا يشحن بطاقات كهرباء من تراكمت عليه فواتير المياه، وأنّ الموظف سيعاقب إن تجاوز هذه التعليمات، وقد سبق لإدارة البلديّة أن عاقبتهم!
مشهد الرجل الذي بحث عن عشرين شيقلاً في جيوبه بحرج، وهو يردد مقولات كانت إحداها "يعني إنتو مش مقدرين ظروف الناس"، دفعني للبحث عن مقالات أو دراسات تناولت نظام الدفع المسبق، حتى وجدّت دراسة تفصيليّة أعدّها الباحثان آيات حمدان وعباد خالد، تحمل عنوان "الدفع المسبق في قطاعيّ المياه والكهرباء"، ومن حسن حظي أنّ هذه الدراسة تعمّقت وغطّت مدينة طولكرم، وقامت بالعديد من المقابلات مع عائلات تسكن المدينة ومخيماتها وبلداتها.
لقد ركزّت الدراسة على مدينة طولكرم، بعدما وجدت أنّ حجم الاستياء من واقع قطاعي المياه والكهرباء في منطقة طولكرم يفوق المناطق الأخرى التي شملتها الدراسة بشكل صارخ، فالمضي بنظام الدفع المسبق يمضي بخطىً متسارعة في مختلف أرجاء المحافظة، بحسب الدراسة.
وفي مقابلة مع رئيس بلديّة طولكرم المهندس إياد الجلاد، قال فيها أنّ "تطبيق هذا النظام جاء لعدة أسباب منها حل مشكلة الجباية بشكل شهري، لتقوم البلدية بدفع فاتورة الكهرباء لشركة الكهرباء القطرية الاسرائيلية، أمّا عن ربط جباية المياه بالكهرباء؛ فقال: "أنّ ذلك جاء في سياق الاستجابة لشروط الجهات المانحة، وتحديداً مؤسسة (KFW) التي اشترطت زيادة نسبة جباية المياه لتمويل مشروع وادي الزومر".
نظام الدفع المسبق جاء أيضاً في سياق الاستجابة لشروط الجهات المانحة التي طالبت باعتماد نظام الدفع المسبق للجباية، وربط الخدمات ببعضها. تأتي هذه الشروط ضمن رؤية البنك الدولي والصندوق الدولي، ضمن رؤيتهم لواقعنا الاقتصادي والاجتماعي.
لقد كثرت الآثار السلبية لشروط الجهات المانحة التي ترضخ لها السلطة الفلسطينية ومؤسساتها، وندفع ثمنها نحن، حتى صارت تنعكس على يومياتنا، وتفاصيل حياتنا بشكل مرير.
(ربما علينا أن نتذكر، أنّ أحد شروط صندوق البنك الدولي للموافقة على القرض المطلوب في مصر، كان إلغاء وتقليل الدعم على الخدمات والمواد التموينيّة الرئيسيّة).
وفي الجهة المقابلة، عبر المتضررون من نظام الدفع المسبق في مدينة طولكرم عن آثاره عليهم من خلال المقابلات التي أُجريت معهم، فقالت سيدة من الجاروشيّة أنّ "تطبيق هذا النظام حرمهم من التمرد على الإحتلال بالتوقف عن دفع الفواتير، وتحميله أعباء ليست بالهينة"، تلك السيدة اعتقل زوجها بعد اعترافه في المحكمة بسرقة الكهرباء لعدم قدرته على الدفع. وقال آخر من طولكرم أنّ هذا النظام وضعهم في حالة توتر لا تنتهي، و في حالة من التفكير المستمر في الاحتيال على هذا النظام لما فيه من استغلال لهم.
وتحدث كثيرون من مخيم نور شمس عن خداعهم من قبل لجنة خدمات المخيم ومن خلفها رئاسة الوزراء، حيث وُعدوا بمكافئة قيمتها 3000 شيقل لكل من يعتمد هذا النظام ويركب عداد نظام الدفع المسبق الخاص بالكهرباء. طبعاً تلك المكافئة لم يستلمها أحد، ولمّا احتجّ بعضهم لدى بلدية طولكرم عن ما تعرضوا له، قامت شرطة طولكرم باحتجازهم. وفي ذات السياق لم يخضع سكان مخيم طولكرم لهذا النظام الجديد، ومازالت بيوتهم ضمن نظام الفاتورة.
إنّ نظام الدفع المسبق يستهدف مجتمعاً يعاني من البطالة، وتوقف أغلب مزارعيه عن الزراعة نتيحة توقف دعمها، بالإضافة لدخول البضائع الاسرائيلية الذي يحدّ من إمكانية تطور الزراعة الفلسطينية، وهو السبب نفسه الذي يقف وراء إغلاق الكثير من المصانع والمشاريع الصغيرة، هذا فضلاً على أنّ من يعمل بشكل عام لايؤهله مستوى دخله لتحمل تكاليف الحياة المرتفعة جداً.
ولو فكرنا قليلاً سنجد أنّ نظام الدفع المسبق وغيره من الأنظمة التي تطبقها السلطة تهدف لرفع الأعباء عن الاحتلال، وتحميلها للناس حيث كما هو معروف فإنّ الاحتلال يتحمل مسؤولية توفير هذه الخدمات. طبعاً في نفس الوقت يستمرّ الاحتلال باستغلال مياهنا، وسرقة مواردنا بشكل عام دون أي تحرك من الجهات التي تفرض هذه الأنظمة علينا، ولم تحاول حتى التفكير بإجراء خفيف يحرج أو يوتر الاحتلال، مثلما أحرجت ووترت إجراءاتها ذاك الرجل وغيره.
لقد طُبّق هذا النظام في تركيا بنجاح، (طبعاً تركيا التي شهدت نهضة اقتصادية عمّ خيرها على أغلب مواطنيها)، يتشارك اليوم المشرفون الفلسطينيون على هذا النظام مع نظرائهم الأتراك خبرات فرضه والتحايل عليه، لكن حسب شهادة رئيس الشركة الفنيّة وهي -الشركة الخاصة التي تورّد عدادات الدفع المسبق- أنّه" رغم تقدم التكنولوجيا ووجود الحسّاسات على العدادات، يمكن القول أن لدينا نحن الفلسطينيون ”إبداعاً“ غير مسبوق في التحايل على الأنظمة المختلفة، فمن خلال تجربتنا، بتنا ننقل الخبرات للأتراك في مجالات الالتفاف على النظام، ومحاولة الحصول على المياه والكهرباء دون مقابل". كان هذا الجانب المشرق في الدراسة!.
لو عاد بي الزمن، وعدت إلى مركز خدمات الجمهور في بلدية طولكرم، وأُحرج ذاك الرجل خلال بحثه عن المال لتعبئة بطاقته، لنصحته بالعودة إلى بيته والتمرد على هذا النظام، والتحايل على تلك العدادات، حاله حال "المبدعين" من شعبنا، وألّا يفكر نهائيّاً بمشروعيّة أو شرعيّة هذا العمل؛ فحصوله على حقه من الكهرباء والماء من الشركات الإسرائيليّة أمر مشروع وحلال بامتياز، مهما كانت الوسائل، وأن لا يوجع رأسه بالتفكير في بلديّة طولكرم وكل مؤسسات السلطة الفلسطينية؛ فهي مجرد جهات تسمسر على هذه الخدمات لتثقل بضرائبها أحمالنا أكثر وأكثر، وهي لا تفكر نهائيّاً بنا، قبل موافقتها على شروط الجهات المانحة، التي لا يدفع ثمنها أحد سوانا.