الخامس من ديسمبر لعام 2013، قبل انتصاف الليل بدقائق، كان الموعدُ لنهاية رجلٍ مثّل رمزاً لحقبة نضالية كاملة وأعطى دروساً في الحرية لكلّ من سعى إليها حين قال "الحرية لا يمكن أن تعطى على جرعات، فالمرء إما أن يكون حرّاً أو لا يكون حرّاً". انتهت حياة المناضل الشهير نيلسون مانديلا الذي كان قادراً أن يجمع المظلومين والمستضعفين على هدف واحد ومن أجل غاية سامية نبيلة ألا وهي التحرر من الظلم والاستبداد لينتصروا في نهاية المطاف على من ظلمهم واحتلّ أرضهم.
تروي السيرة الذاتية لمانديلا أنه سُمّي في طفولته بـِ " روليهلاهلا" أي "المشاكس" بالعامية، وكان سليلاً لأحد الملوك من جهة والده، وعمل والده مستشاراً للملك بالإضافة إلى كونه زعيماً محلياً في منطقته. كلّ ذلك لم يمنع مانديلا الإبن من التفكير بمنحىً مختلف ليتأثر بالخطاب المعادي للإمبريالية والهيمنة الغربية في حينه ويبدأ في نضاله ضد سياسة الأبارتيد في موطنه جنوب إفريقيا.
لم يكن بإمكان مانديلا حينها إلا أن يغير نظرته السلبية للشيوعية متأثراً بدعم الإتحاد السوفييتي لحروب التحرير الوطنية على مستوى العالم، كما تأثر بعض الشيء بنموذج "المهاتما غاندي" في المقاومة اللاعنفية، إلا أن استمرار قمع المظاهرات جعل مانديلا يفكر في بلورة مفهوم جديد وهو "لا بديل عن مقاومة مسلحة وعنيفة".
حُكم مانديلا بالسجن ل 5 سنوات، ثم حكم بالسجن مدى الحياة، ليقضي منها 18 عاماً متواصلة في إحدى الجزر معزولاً معاقباً بأشد العقوبات، حيث كان يقضي يومَه في العمل القسري في تكسير الصخور ومصانع الجِير، وما منعه ذلك من الإستمرار في نضاله من داخل سجنه بالإضافة إلى دراسة الحقوق !
حقيقةً، يدور في ذهني تساؤلٌ منذ زمن، السؤال ذو صلةٍ وثيقة بواقعنا الفلسطيني المترهل، خمدَت نارُ هذا السؤال في ذهني في الفترة الماضية، لكن وفاة مناضلٍ مثل مانديلا أيقظت هذا السؤال من جديد !
يمرُ علينا كلّ يوم الكثير من "القيادات الوطنية" الفلسطينية، التي يمكن وصفُها بـِ "التقليدية" إلى حدّ كبير، تقتات هذه الشخصيات على ماضٍ قديم أو انجازٍ وطني أو نضالي أكل عليه الدّهر وشرب، لتكرره في كل مناسبة وتذكرنا به عند كلّ حدث، بل وأنا على يقين أنّني بعد إنتهائي من كتابة هذه التدوينة سوف أجد العشرات من التعازي وبرقيات المواساة التي يوجهها هؤلاء بوفاة مناضل مثل مانديلا. لكن يبدو أنّ مثل تلك الشخصيات لا تعيد قراءة الماضي جيداً ولا تستفيد من تراكم تجارب الآخرين.
قد تتغافل تلك "الرموز الوطنية" عن القيمة الحقيقية للنموذج الثوري الذي مثله مانديلا في حياته، وكيف رفض مانديلا تحويل سنوات نضاله وسجنه إلى مصدر "ربحٍ شخصي" ليستفيد منه بشخصه بعيداً عن الهدف الذي نهض من أجله ألا وهو مصلحة الجميع!
يتبع ذلك التساؤل في ذهني تساؤلٌ آخر ... يا تُرى لو كان نيلسون مانديلا فلسطينياً، كيف يمكننا تخيله! في أي فندق من فنادق الوطن سيقيم!؟ أم أن مكان إقامته ستكون في عواصم الرفاهية الأوربية والعربية!؟ هل سيكون موكبه مؤلفاً من عديدِ السيارات السوداء المظللة بمرافقةٍ من العديد من الحرس!؟ أم هل ستصير مقدّرات الدولة ووزاراتها ومؤسساتها في خدمته وخدمة جماعته ومقربيه !؟ أتركُ هذا السؤال مفتوحاً بلا إجابة، فأنا على يقين أن الإجابة واضحة في عقولكم وقلوبكم !
صدقاً، الليلة شكرتُ الله أن مانديلا لم يكن فلسطينياً، على الأقل لن نذكُره بعدد ما سرق ونهب، وعدد ما مَلك من عقارات وأموال من ممتلكات شعبه وأبناء "ثورته"، ومن الزاوية الأخرى فلن يحظى مانديلا بزنزانة يغلقُ بابها أحد أبناء ثورته الذي قاسمه وجعَ النضال يوماً !!
لقد أعطت وفاة مانديلا بعد أن جاوز عمرُه ال 90 عاماً -بأقل التقديرات- وبعدَ سنوات طويلة من السجن والعزل والمعاناة مؤشراً واضحاً ودليلاً قوياً على أنّ الشجاعة ما أنقصت من عمر صاحبها قطّ، وأن الجُبنَ ما زاد في عمر صاحبه ولن يزيد. !
أختم تدوينتي بما قاله مانديلا ذات يوم واصفاً حياة الجبناء والمترددين:" الجبناء يموتون مراتٍ عديدة قبل موتهم، والشجاع لا يذوق الموت إلا مرةً واحدة"، لتكون قصة كفاح مانديلا درساً حافلاً بالعبر لمن يريد أن يستفيد من دروس التاريخ ويستلهم تجربةَ تلك النماذج الثورية الواعية في سبيل الحصول على حريته.